الرئيسية / الآراء والمقالات / سليم النجار يكتب : الشخصية الفلسطينية المعاصرة “٣”

سليم النجار يكتب : الشخصية الفلسطينية المعاصرة “٣”

سليم النجار

الشخصية الفلسطينية المعاصرة “٣”

سليم النجار

لقد أُتيح لي الآن في ظلّ هذه الظروف العصيبة التي يمّر بها شعبنا الفلسطيني، من حرب إبادة من قبل الكيان الصهيوني، أن أتناول هذه الحلقة مقرونة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالحكاية الشعبية، التي تكتنفها الكثير من الأسرار والصناديق المغلقة٠
وللحكاية حضورها الدائم في حكايات الأهالي، فالحكاية في اللغة العربية، أصلاً، من الفعل حكي يحكي حكاية ومحاكاة٠ فهي نوع من التمثيل والتشبيه وهي أقرب إلى التمثيل بشكل أو بآخر٠
وإذا كانت الحكاية بشكل عام قد ولدت مصاحبة للمثل والأسطورة والخرافة، فإنها كانت هي المدونة الكبرى بالنسبة للمثل بوصفه مدونة صغرى، فهو أقرب إلى العنوان أو اللغز، لهذا عبرت عن رهبة الإنسان من اللغز، الذي شعر به الفلسطيني على وجه التحديد، وهو لغز سقوط فلسطين في براثن الحركة الصهيونية، ومن قبله خضوع فلسطين تحت “الانتداب البريطاني”، فصارت الحياة الفلسطينية لغزًا، فما أكثر الحكايات التي تقايض الحياة بلغز٠ حيث ارتبطت بالسرّ أو السرّ المودع، في الضمير الجماعي للفلسطينيين، كما حكايات (ألف ليلة وليلة)، وبعض الحكايات الشعبية الاجتماعية التي انتشرت إبّان انطلاقة الثورة الفلسطينية، ثورة القسّام، كما في حكاية ( الزواج الجبري)، الذي زعم من رواج لها أنّ الثوّار كانوا يذهبون للقرى وتحديدا قرى الشمال الفلسطيني، ويطلبون بقوة السلاح تزويج فتاة لثائر كان” يريدها” لنفسه، وكان المانع على سبيل المثال عدم التكافؤ الاجتماعي، فوالد البنت مختار، والثائر فلاح بسيط، قبل يلتحق بالثورة، ومثل هذه الحكايات انتشرت كالنار في الهشيم٠
وفي تلك الفترة لم يكن حد معني البحث عن مروج هذه الحكايات، خاصة أن مثل هذه الحكايات كانت تؤخذ على محمل الجديد والصدقية، ولامجال لتكذيبها٠ ولأن الحكاية علاقتها بالإنسان مصيرية، وعلاقة وجود وحياة، لأنّ الحكاية هي الأرضية والفضاء الذي يسكن فيه، ويبني حضارته ويرسم تحضُّره، وكيانه فيه، ذلك أنّ الحكاية بوصفها نظامًا اجتماعيًا وعاطفيًا ينتظم العلاقات الإنسانية في كلّ هذه المجالات ولننظر إلى حكاية شاعت في فلسطين (أن الشيوعيين يتزوّجون من إخوتهم)، وكان خلف هذه الحكاية الإنجليز لأنّ الشيوعيين رفضوا الانتداب وبأشكال مختلفة ومتنوِّعة كإنشاء الحزب الشيوعي الفلسطيني، أو من خلال عصبة التحرّر التي رفعت السلاح ضدّ الانتداب البريطاني، ولاقت هذه الحكاية رواجًا كبيرًا في الأوساط الاجتماعية الفلسطينية٠ واستمرت مثل هذه الحكايات وتطوّرت كسرديات وأصبحت من الذاكرة الشعبية الفلسطينية، وبكلمات موجزة وجمل قصيرة، مركّزة ومكثّفة، لكي يمكن تداولها بصورة بشكل طبيعي وبلغة مفهومة وعامية قريبة من واقع المتكلِّم والمتلقّي، ومن خلال صياغة بلاغية شعبية مؤثرة، يتمّ فيها إرسال رسالة سريعة ومختصرة إلى المستمع وفيها نوع من التحريض على الثورة، وغالب هذه الحكايات مجهولة القائل، وهي من خصائص الحكاية الشعبية حتّى تصبح ملكية جماعية ومعبرِّة عن ضمير المجتمع الفلسطيني٠
لقد تنوعت الحكايات المحرِّضة على الثورة الفلسطينية، كحكاية أنّ الفدائي الفلسطينيّ يردِّد بشكل ساخر قول (إيد على الزناد وإيد على الأفخاذ)، ومن أكثر الحكايات انتشارا وإيحاءً للحكايات الجنسية التي تعبر عن غريزة الإنسان وسخريته من الواقع الذي لا يلبي حاجاته الجسدية وغير الجسدية، ( الرفيق للرفيقة والولد للتنظيم)، وهذه الحكاية على وجه التحديد كانت موجهة لفصائل اليسار الفلسطيني المسلحة٠ التي كانت تتشدّد في برنامجها السياسي الذي يرفض أيّ اتّفاقات مع ” إسرائيل” ويصرّ على أن فلسطين من المية إلى المية، وبصرف النظر عن هذا الطرح سواء من اتّفق معه أو اختلف، كان الهدف من بثّ هذه الحكايات تقزيم وتعهير العمل الفدائي الفلسطيني، وإن كان العنوان اليسار٠
ولا بدّ أنْ نعلم تمام العلم بأنّ الجسد هو جوهر حياة الإنسان وكينونته، لذا من كان يروِّج لهذه الحكايات يعلم علم اليقين أهمية زجِّ الجسد في الحكاية، خاصّة في مجتمع مثل الفلسطيني الذي يغلب عليه الطابع الريفي٠ ومن أهم صفات هذا المجتمع أنه يحافظ على مكانة الجسد، كما الأرض التي يمتلكها٠
ومن أكثر التقنيات التي وُظِّفت في الحكاية المعادية للفدائي الفلسطيني تقنية التلميح التي تعني الإشارة، والتي أصبحت علمًا معروفًا في النقد الأدبي، وهو السيميائية، ولكن التلميح في الحكاية الفلسطينية مثل نوعًا من الرسائل السريعة من المرسل إلى المستسلم/ المتلقي من أجل اختصار الكلام الطويل والزائد٠
لقد ارتبطت الحكاية المعادية للثورة الفلسطينية بمفهوم الاستمرار٠ واستخدام سلاح الاستمرار الذي يلاحقه الزمان، والنسيان الذي يسببه التقادم٠ وذلك لترسيخ المعنى وحفظه من الكلام الذي ينسخ بعضه البعض٠ لذا ارتبطت الحكايات النشاز والمعادية لأيّ فعل وطني فلسطيني بقيم اجتماعية قائمة على مؤسسات اجتماعية بالية كالمخاتير وما يسمى الوجهاء، والشخصيات (المستقلة) التي عادة تُمثل في التجمعات الفلسطينية المتواجدة في أصقاع الأرض وجهات النظر السياسية للدول التي تعيش فيها٠ فإنّه يجدر بنا أنْ نتساءل أولا، إلى أية أخلاق تريد مثل تلك الحكايات أنْ تعود بنا؟ وراء إنتاج المعاني إذن قوى تهدف إلى الإخضاع والسيطرة على الفلسطيني، وإلحاقه بمجتمعات هشّة لا تعرف من حياتها وتاريخها إلا ما رسمته قوى الاستعمار، التي تجلّت بأبشع صورها السياسية والتي عُرفت ب “الدولة القطرية” وما تفعله مثل تلك الحكايات هو اختزال القضية الفلسطينية، وحصرها في حكاية، والتي تعتبر مدماكا أساسا في تكوين الشخصية الفلسطينية التي أخذت طابعا عنيفا في وصف الآخر العربي ونعته بأبشع الأوصاف، بل تمثل جزءا لا بأس به من التفكير للشخصية الفلسطينية واعتبرت نفسها منزهة عن أي خطأ أو فعل أي رذيلة٠
ولم تنجح الثورة الفلسطينية المعاصرة في بناء منظومة قيِم تواجه هذه الحكاية إلا في حالات نادرة، وأصبحت الشخصية الفلسطينية الملتزمة والمنخرطة في صفوف الثورة الفلسطينية، شخصية منبوذة، في جُلّ الأوساط الاجتماعية الفلسطينية٠
يتبع٠٠٠

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

عبد الرحيم جاموس
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
رئيس اللجنة الشعبية في الرياض

د عبد الرحيم جاموس يكتب : ثورة الطلاب العالمية فلسطين تنتصر

ثورة الطلاب العالمية فلسطين تنتصر… احتجاجات الطلاب : من جامعة كولمبيا في أمريكا إلى طلاب …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *