الرئيسية / الآراء والمقالات / نادرة هاشم حامدة تكتب : ذكرى نكبة الوطن الأم، والوطن الأب

نادرة هاشم حامدة تكتب : ذكرى نكبة الوطن الأم، والوطن الأب

نادرة هاشم حامدة

ذكرى نكبة الوطن الأم، والوطن الأب 

  بقلم  : أ. نادرة هاشم حامدة

*أولا* : ( نكبة الوطن الأم فلسطين … في أيار 1948)     

في ذكرى هذه النكبة أقول : ليس من الضروري أن تكون قَصَّاصَا تحفظ القصص القديمة ترويها حكاية عن الوطن، ولا يلزمك ان تكون كهلا تجتر من ذاكرتك أحداثا نجوت منها في نكبة الوطن، ولا أن تنتظر مشهدا مؤثرا تراه أو تسمعه، فتوجعك أحداثه الدرامية عن الوطن، لأنك تعيش فعليا وفي وجدانك نكبات مستمرة لهذا الوطن، تستنزف منك الآلام والوجع، فلا هدنة معها في ظل جرح نازف لا يعرف الضَّمَد، مع كيان صهيوني لِصُوصِيِّ باركته ضلالة الأمم . لم يَكْتَفِ هذا الغاصب بقسمة الضَّيْمِ حين بدأ، فإذا بنكبة 48 وتقسيم فلسطين، ما كانت إلا بِدَايَةً لِعَقْد من النكبات قد انفرط، فاحتل هذا الكيان الغاصب بعد النكبة بسنوات القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة، ووضع أصحاب الأرض تحت حكمه الجبري العسكري الفاشي، فزاد بذلك من نكبتنا نكبات آُخَر، حصدنا فيها ولم نزل، آلاف الشهداء، وآلاف الأسرى، وآلاف الجرحى، وآلاف البيوت المدمرة، وآلاف الدونمات الزراعية المصادرة، وغيرها التي جُرِفَت، وغيرها التي اِقْتُلِع منها الشجر، أضف إلى هذا الأرض التي هُوِدَت، والمعالم الإسلامية التي طُمِسَت، فإنها والله نكبات علينا، قد تتالت . معابرً أُغْلِقَت، وأرزاق في البر حوصرت، و أخرى في البحر حوربت، ومرضى ماتت على بوابات البلد، وأجيال من الشباب باتت بلا أمل، حتى أصبحت هجرة الموت في البحر لأحدهم، هي كل الأمل. كل هذا وأكثر يجعل نكبتنا ليست مجرد تاريخ نجتر منه أحداثا قد مضت، بل هي قُطُوفُ وُجْدَانٍ تتنزل علينا من عرائش النقم، لتصنع فينا حالة شعورية تتجذر في النفس بقوة، فتترك فيك أسوأ الأثر، فلذلك من الطبيعي أن يكون في وجدانك نكبة الوطن، تسيطر عليك منها،مشاعر ساخنة ملتهبة بجمر القلب الذي انكوى، إن عبرت عنها فسيكون بِدَمْعٍ يشوي المقل، وإن كتبتها، فسيكون بقلمٍ حبره من دم الشهداء الذي به ارتوى الوطن، فلِكُلٍ منا حكاية ورواية تمثل جزء في سلسلة نكبات الوطن،

تبدأ حكاية كل واحد منا، في زمن الإدراك و الفهم لمعنى فقدان الوطن، حين يرى ويسمع، حين يحس ويعاني من تبعات فقدان الوطن، فهنا شهيد، وهنا أسير،،وهنا جريح، وهنا مفقود، وهنا مطارد، وهنا لاجئ، وهنا نازح، وهنا يتيم، فالكل منا قد تخزن في مستودع عقله الباطني، شريط من مشاهد أليمة، من ملف نكبة هذا الوطن، ستظل محفورة فيه للأبد، مهما بعدت سنونها عنه أو انقضت، لأنها أحداث جسام،، لولا رعاية الله، وتفضله علينا بالصبر، ما تحملها منا أحد..

ورغم هذا الصبر إلا أنك تجد من هذه الأحداث المريرة ما يطفو فجأة من الأعماق إلى السطح، إذا ما استفزها ما يشبهها من.ناقور الخطر، لتخرجك عن طور وعيك إلى حالة من السخط، فتخشى ان تكون قد أصبحت رهين صدمة استوطنتك، ضمن مسلسل نكبات الوطن، فاستعذ، بالله من جديد، واطلب منه التصبر والرضا. *ثانيا : (نكبة الوطن الأب، في أيار 1975،يوم استشهاد والدي* إنه يوم محفور في مستودع ذاكرتي، ذو مشهد خاص من مسلسل نكبات الوطن، قد استقر في أعماقي منذ الصغر، ليرسم الخارطة التكوينية .كأي طفل تعرض لمثل هذا الحدث، ليرتسم في هذه الخارطة للحقد خطوطا وللكره، للإصرار وللتحدي، وللإنتقام والثأر، وَيُخَطُ فيها الانتماء المتجذر للوطن، إنه مشهد متكرر وليس فريد في دنيا نكبات الوطن، مشهد أطفال يصرخون، وهم يحتمون بتلابيب ثوب أمهم ، وقد أفزعهم يومها الخطب والخبر.

في يوم الخامس عشر من شهر أيار لعام ١٩٧٥م،، طَوَّقَ جيش الاحتلال بيتنا الكائن في غزة، شارع عمر المختار ، وامتلأت الشوارع بآلياتهم، وداهم عشرات الجنود بيتنا المتواضع، ليعيثوا بمحتوياته فسادا، تحطيما وتدميرا، حيث لم يبقوا على شيء فيه بحثا عن أسلحة ومتفجرات، موجهين بين الفينة والأخرى أسئلتهم لوالدتي، أين يخبئ زوجك المخرب المتفجرات؟؟.

لم يتركوا شيئا في البيت غلى حاله، حتى الدقيق أفرغوه من وعائه على الأرض، وداسوه. بأقدامهم، كان مشهدا مرعبا لأطفال أكبرهم سبع سنوات، ولم يكن سهلا على والدتي الشابة، التي لا تعرف هل كان أطفالها هم الذين يحتمون بها أم العكس، فقد كانت تضم ابنها الوحيد ذو الشهر الواحد إلى صدرها بيمينها، وتلف البنات الاربعة إليها بيدها البيسار.

  كانت تنظر والدتي رحمها الله إلى مشهد الجنود أمامها بعيون الأسى، وقد أخذتها ذكرى السنوات العشر من زواجها بوالدي، حيث مكث خلالها في السجن أكثر مما مكثه معها، ومثل هذا المشهد من مداهمة البيت، قد مر من قبل عليها، إلا أنها تشعر أن هناك اليوم، شيء آخر مختلف.

تقدم ضابط صهيوني يتكلم العربية جيدا، من زاوية البيت التي كنا ننكمش فيها، سائلا والدتي : انت زوجة المخرب هاشم عبد الفتاح أبو حامده؟ وقد تعالى صراخنا، حين اقترب منا، فقالت والدتي : نعم أنا زوجة هاشم أبو حامدة، وهؤلاء أطفاله، ولكن زوجي ليس بمخرب، قال لها : بل هو مخرب، وقد قتلناه، وتستطيعي ان تستلمي جثته من مشفى هداسا العسكري.

بهذا الشكل ، عرفت والدتي خبر استشهاد والدي، وكان ذلك أثناء عملية زرع ألغام في خط السكة الحديد، قبل مرور القطار الصهيوني المحمل بالدبابات والعتاد العسكري بقليل، والذي كان يأتي من داخل فلسطين المحتلة للثكنات العسكرية للمحتل في غزة، كان الحادث في شارع صلاح الدين، على طريق رفح خانيونس، ليستشهد والدي وأحد الفدائيين في المجموعة، وينجو إثنان بسلام، رحمهما الله وتقبلهما شهداء لا نزكي غلى الله أحدا. .

ومن هنا بدات رحلة العذاب، والمعاناة في سلسلة نكبات الوطن وتبعاته، بعد غياب الوطن الثاني وهو الأب، عن بيته وأطفاله، لتتحمل والدتي رحمها الله، المسؤولية في تربيتنا، تماما كآلاف زوجات الشهداء الفلسطينيات في هذا الوطن المنكوب، فقد.كانت رحمها الله امرأة بألف رجل، إذ جعلتنا دوما نعيش في فخر والدنا الشهيد الجبهاوي الحر، حيث كثيرا ما كنا نلتف حولها لتحدثنا عن بطولاته التي لا يعرفها أحد سواها، وعن قصصه مع المحتل، وكيف كان يفجر الجيبات العسكرية في شارع عمر المختار، ويكون في ثواني في شارع الوحدة عبر بوابات المسجد العمري، وكيف كان بيتها معقلا للفدائيين وأسلحتهم، كانت تحدثنا كيف يُخْرِج أحدهم.الرصاص من جسم أخيه بالسكين المحمي على النار، خوفا من أن يكشفهم الاحتلال، وكيف كانت أشواك الصبر تملأ ظهورهم، حين كانوا يلقون بانفسهم في أشجاره، حين يداهمهم جنود الاحتلال، كانت تحدثنا كيف عاشوا فقراء لا يجدون ما يعيلون به اسرهم، ولكنهم لم يتوانوا لحظة عن الدفاع عن كرامتهم التي أهدرها هذا الإحتلال، بسرقة الاوطان.. هكذا ملأت والدتي رحمها الله نفوسنا فخرا وعزا، وأشعرتنا بشرف التضحية والفداء من أجل الوطن، فكان هذا الشعور يعوضنا ألم الفقدان. *ضيف غريب* … بعد مرور أربع سنوات من استشهاد والدي رحمه الله، زارنا ضيف غريب فجأة وعلى عجل، استاذن من والدتي دقائق معدودة، معرفا عن نفسه انه صديق قديم لوالدي، وأنه يريد أن يوصل لنا أمانة ثقيلة في عنقه منذ سنين، كانت هذه الأمانة حديثه عن والدي رفيق النضال في آخر لحظات الحياة، والتي ما كنا لنعرفها أبدا، بدون هذا الضيف الذي كان معه في هذه اللحظات. 

 كنت أظن على صغري حينها، ان الرجال لا تبكي، وأن النساء فقط هن البواكي، لذلك لن أنسى أبدا بكاء ذلك الرجل، حين احتضن أخي الوحيد الذي أصبح أربع أعوام، قائلا له : انت الذي فرح هاشم بقدومك كثيرا، ولكنه للأسف، تركك من أجل الوطن ،ورحل، .

 زادت دموعه انهمارا، وهو يقص علينا ما اعتبره أمانة لا بد ان يعرفها ذوو الشهيد هاشم عنه، فحدثنا كيف كان الاشتباك، و كيف أصر والدي في أن تنسحب مجموعة الفدائيين، و يبقى هو لتغطيتهم، وكيف أنهم رفضوا وقالوا له : ( *نموت معا أو نعيش معا*) فصرخ فيهم ان يلتزموا، وينسحبوا زحفا إلى البيارات دون سيارة في الحال، فنجا منهم اثنان، كان هذا الضيف أحدهما،، واستشهد الثالث قبل أن يتم الانسحاب، ليلقى بعدها والدي حتفه الآخر، تقبلهما الله جميعا شهداء بإذن الله غادرنا الضيف الذي لم نعرف اسمه، تاركا لنا ميراث فخر، بهذه السيرة العطرة لوالدي ، حيث القيادة و الإيثار، هذا الخلق الإسلامي الفريد، الذي لا يمكن أن تجد.له ترجمة في لغة من اللغات ، لانه خُلُقٌ إسلامي بحت، فقد آثر والدي رحمه الله رفاق الدرب، في أغلى شيء يملكه الانسان على الإطلاق، لقد آثرهم على نفسه في الحياة و البقاء.  

 

*في ذكرى النكبة نقول* : لا يلزمنا نحن الفلسطينيون أن نتذكر نكبة الوطن، فقد شربناها علقما مرا ولم نزل ، 

فالأشياء تتلاشى إن لم يجسدها الإحساس الدائم بالشجن، وأي شجن أقوى من هذا الواقع الأليم الذي يسدل علينا أستاره الداكنة السوداء بكل ثقل، فكل يوم.نحن في نكبة تضاف إلى أصل النكبة، وكأن نكبة 48 عقد من النكبات قد انفرط . 

 *لدولة العناكب نقول* : لن تدوم احتفالاتكم بذكرى سرقة الوطن، وإن احتفلتم خمس و سبعون مرة، أو حتى أكثر ، فالويل لكم من ثأر أرضعناه أبناءنا، وسيأتونكم كجمالة صفر، يرمونكم بلهيب من جمر شزر ،.فالثأر قادم وسيكون عليكم بحول الله أدهى وأمر ..

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

عبد الرحيم جاموس 
عضو المجلس الوطني الفلسطيني

د عبد الرحيم جاموس يكتب : لاتبيعُوهُ مواقفَ من بعيد ..!

لاتبيعُوهُ مواقفَ من بعيد ..! نص بقلم د. عبدالرحيم جاموس  لا تبيعوهُ مواقفَ من بِعيد …