الرئيسية / الآراء والمقالات / د. ادمون ملحم يكتب : مجتمعنا العاجز والممزّق

د. ادمون ملحم يكتب : مجتمعنا العاجز والممزّق

د. ادمون ملحم

 مجتمعنا العاجز والممزّق

د. ادمون ملحم

صحيح ان عصرنا هو عصر الإنجازات العلمية والطاقة الذرية والحقول الإلكترونية، الذي تقوده ثورة التكنولوجيا والمعلومات والاتصالات والمعرفة البشرية المتزايدة في مختلف الميادين والتي جعلت من العالم قرية صغيرة، إلا أننا ما زلنا متخلّفين عن اللحاق بتقدم الغرب العلمي والصناعي والتكنولوجي والنووي. فبيننا وبينه فجوة كبيرة في ميدان العلم والحضارة العلمية الحديثة. إن مجتمعنا العاجز والممزّق إلى كيانات وطوائف وعشائر وإثنيات، ما زال، بالإجمال، وبالرغم من ارتفاع عدد المتعلمين والمثقفين فيه، مجتمعاً متخلّفاً غارقاً في مستنقعات الجهل والقضايا الرجعية وأوهامها، مجتمعاً فئوياً منقسماً إلى جماعات طائفية وإثنية وقبائلية متنافسة ومتناخرة؛ مجتمعاً فسيفسائياً بثقافاته ومنطلقاته وتطلعاته، مُغرِّباً ومغترباً عن نفسه، يتخبّط بتناقضاته الداخلية و«هوياته» المتنوعة وانقساماته الاجتماعية والسياسية وعصبياته الطائفية والمذهبية والقبلية والعائلية، ومثقلاً بأوضاعه الفاسدة والمذلّة وتقاليده البالية واتجاهاته التعصبية وثقافاته الرجعية المعطّلة للإرادة الحرة ولحقوق المواطنة والمكرّسة تبعية الشعب وامتثاله القسري لسلطوية الأنظمة السائدة ومؤسساتها وتبعية هذه الأنظمة للخارج وتسابقها للتطبيع مع دولة العدو الغاصبة لأرضنا.

هذا المجتمع المتخلف، المفكك، الضعيف، والمستباح والمهدّد بنزاعاته وبالأخطار الخارجية (التي تهدّد وجوده) والرازح بفقره وأمراضه ومفاسده، تُسَيّره العقليات السلفية والغيبية والثيوقراطية والقبلية والثقافة الأبوية المهيمنة والتفكير الخرافي والرجعي المتخاذل والغارق بقضايا الماضي وأمجاده والمعرقل للتقدم والارتقاء.

إنه مجتمع حائر بين السلفية والحداثة، بين ثقافة الماضي والتقاليد المتوارثة وثقافة المدنية الحديثة الواردة من الخارج. إن الثقافة السائدة في مجتمعنا، كما يحلّل عالم الاجتماع الدكتور حليم بركات، «هي في آنٍ واحد ثقافة غيبية تقليدية طقوسية وثقافة استهلاكية مستوردة من الغرب وأنماط حياته السطحية.» ويعتبر أن هذا المجتمع يعيش «في تأزم دائم فيشهد صراعاً مريراً تتجاذبه قوى الوعي التقليدي وقوى الوعي الحداثي، قوى المحافظة وقوى التقدم، قوى النزوع القومي وقوى النزوع الديني، قوى الوحدة وقوى التجزئة، قوى العلمنة وقوى الثيوقراطية الغيبية…».

إن مشكلتنا، باختصار، نابعة من الجهل والتحجّر وخطط التفكير الانحطاطي وقضايا الحزبيات الدينية ومن سيطرة السحر والتنجيم والخرافات والقيم السلفية والقدرية التي تعوق مسيرتنا العلمية وتشجّع على القناعة والاستسلام واليأس وتنامي الاتجاهات التعصبية العرقية والقبلية والعشائرية والمذهبية والكيانية والقبول بالأمر الواقع وعدم مواجهة التحديات او المشكلات التي تعترينا وتفضيل استمرارية العيش والمساومة والانغلاق على الذات والمبايعة والاتكال على القوى الأجنبية لحل مشاكلنا. فكما يقول أنطون سعاده: «إنّ بلية الأمة العظمى، هي الرجعية الاجتماعية والسياسية، بعقليتها الاتكالية المستسلمة المستمرة في خطط التفكير الانحطاطي، وفي قضايا الحزبيات الدينية والمصالح الخصوصية والسياسة القبلية والعائلية…» وبكلام مماثل، يوضح سعاده أن أعظم بلية حلَّت بالأمة، نتيجة لعصور التقهقر والانحطاط، هي:

بلية الأمراض النفسية والانحطاط الـمناقبي، وقيام الـمصالح الـخصوصية والغايات الفردية مقام مصلحة الأمة والغايات القومية، وتـحجر الـمجتمع السـوري في قوالب الـحـزبيـات الدينيـة الـمختلفة، فتفشّت في الـمتحد الاجتماعي الـمثالب الأخلاقية، وحلّت محل الـمناقب، فطغت نفسية الرياء والغش والتزييف والنفاق، يساعدها على الانتشار الـجهل والفقر والذل التي تعرّض لها الشعب في سقوطه من سيادته وعزِّه.

إن واقعنا الاجتماعي مأزوم بنظامه الأبوي وانقساماته الاجتماعية ونزعاته الفئوية وبأزماته السياسية والاقتصادية والمالية المتفاقمة. هذا الواقع وما يتفشى فيه من حروب وتطرف ديني وإرهاب ونزوح وفقر وبؤس وحرمان ومن قهر وظلم وإذلال وقمع وإقصاء سياسي واجتماعي يبعث على الإحباط واليأس. إن إنساننا يعاني من شعور بالاغتراب عن مجتمعه ويبدو كائناً مقهوراً ومغلوباً على أمره ومحروماً من ممارسة حقوقه وعاجزاً عن تحقيق أحلامه وإمكاناته الإنسانية. هذا الإنسان المقهور يعيش على هامش الوجود قلقاً وحذراً على حاضره ومستقبله ومستقبل أولاده ومأخوذاً بتأمين حاجاته الآنية «فتسيطر في حياته قيم مجرد المعيشة والاستمرار.»

إن ما نعاني منه من فوضى وبلبلة فكرية وجهل وضعف وضياع وانحطاط حضاري هو نتيجة للعوامل الاتية:

أولاً، لما يُختزَن في عقولنا الباطنية من أوهام مهترئة ومعتقدات موروثة وأفكار محدودة وثقافات زائفة. وهناك إجماع عند علماء النفس أن للاعتقادات قوة تأثير كبيرة في سلوكنا. فهي الأساس الذي نبني عليه كل أفعالنا، وكما يقول الكاتب الأميركاني روبرت ديلتز في كتابه «الاعتقاد»: «يمثل الاعتقاد أكبر إطار للسلوك، وعندما يكون الاعتقاد قوياً ستكون تصرفاتنا متمشية مع هذا الاعتقاد.»

إن تفكيرنا ما زال تفكيراً سطحياً متمحوراً حول الماضي وقيمه. ما زلنا غارقين في قضايا الماضي ونعيش بعقلية القرون الوسطى وعقلية المجتمع البدوي التي تدفعنا للقوقعة والتعصّب والتحاسد والتناحر الضار والاقتتال، كما تدفعنا الى التنازع الفئوي على حساب المجتمع وللتشبّث بآرائنا لأن كل فئة منا تحتكر منطق الحق المطلق انطلاقاً من نظرتها التعسفية فلا ترى إلا وجهاً واحداً من أوجه الحقيقة. فنحن اليوم أقل تسامحاً وأكثر تعصباً لآرائنا ولمنطقنا «الصخري» ولمعتقداتنا الصارمة، وقد تكون هذه المعتقدات باطلة.

نحن الآن نحيا في عصر جديد لا مكان فيه للبديهيات والحقائق والقيم المطلقة المستمدة من مفاهيم القداسة. وهذا العصر هو عصر العلم، والعلم في حالة تطور حثيث ولا يوجد فيه حتميات. فليس في العلم، كما يؤكد ديكارت، من حقيقة مطلقة.

وثانياً، لفقدان الثقة بنفوسنا وبمواهب شعبنا وإمكاناته والاستسلام للخنوع. إن النفسية العامة في الأمة هي نفسية خوف وجبن وتهيّب وتهرّب وأوهام تُغذّيها طائفة من ذوي النفوس السقيمة المأجورة للإرادات الأجنبية . هؤلاء الدجّالون ينشرون الخوف شمالاً ويميناً ويغذّون الأفكار بسموم فقدان الثقة بمستقبل الأمة ويدْعون لاستجداء الإرادات الأجنبية والتسليم بمقرراتها وانتظار رحمتها والقبول بالحالة الراهنة لأننا، برأيهم، «قوم ضعفاء لا قدرة لنا على شـيء ولا أمـل لنا في تحقيق مطـلـب أو إرادة، وأنّ أفضل ما نفعله هو أن نسلّم بعجـزنا ونتـرك شخصيتنـا القوميـة تضمحـل من بيـن الأمـم، ونقنع بكل حالة نسير إليها.»

نحن «لسنا ضعفاء إلا إذا أردنا أن نكون ضعفاء.» إن لدينا القدرة على الخلق والإنشاء والتخطيط والإبداع. إنَّ المطلوب هو أن نعود إلى الإيمان بذاتنا وبنفسيتنا الجميلة وخصائصها… علينا أن ننتصر على الخوف المعشعش في داخلنا وأن نثق بأصالتنا وبما يختزن فيها من خير وجمال وإبداع.

وثالثاً، لإهمالنا قواعد التخطيط الصحيح القائم على العلم واعتمادنا إما خططاً فوقية فاشلة تخدم مصالح المسؤول او الحاكم، وإما خططاً وهمية، هزيلة، سرابية، منفصلة عن الواقع ولا تأخذ بعين الأعتبار معرفة الحقائق الواقعية والتحديات وتحديد الوسائل والإمكانات المتاحة وخطط التنفيذ وترتيب الأولويات. إنها خطط فاشلة لا تحقق تقدماً ولا تُحدث تغييرات في الواقع وتؤدي إلى تحسينه، بل هي تزيده سوءاً. وبغياب التخطيط الناجح، الذي يشكِّلُ العمود الفقري لأي عمل، واعتماد سياسة رد الفعل والارتجال بالخطط، نبتعد عن النجاح في مشاريعنا ومؤسساتنا ودولنا ولا نحصد إلا الفشل والتراجع والإحباط والشقاء.

ورابعاً، لغياب المؤسسات القومية الصالحة لتجديد حياة الأمة ولإيقاظ الوجدان القومي من نومه. فالمؤسسات الاجتماعية والتشكيلات السياسية القائمة في المجتمع هي مؤسسات الإقطاع والعشائر والعائلات والمذاهب الدينية وهي بمعظمها مؤسسات خصوصية تقليدية، إنتفاعية، تدّعي الوطنية والتقدمية ولكنها تعمل لمنافعها وغاياتها الخصوصية وتتضارب فيما بينها لتنتج سياسة العائلات والمذاهب وثقافة الحقد والفتنة والتعصب والانقسامات الطائفية والتصادم الاجتماعي والأنانية العمياء. هذه المؤسسات اللاقومية المتنافرة والمتضاربة المصالح والأهداف لا تصلح لحاجات الأمة ولإيقاظ الحس الاجتماعي بين أبنائها ولا تأتي بالتربية القومية المولِّدة للتعاون الاجتماعي ولثقة الشعب بنفسه التي هي مصدر العزم والهمة والأعمال الجبارة التي تدفعه إلى حل قضاياه بنفسه وإلى تحسين حياته والسير إلى ما فيه صلاحه وفلاحه…

وخامساً، لإهمالنا الثقافة البانية للإنسان – الثقافة النهضوية، المنعشة، والفعّالة والعقلانية – وعدم إعطائها الأولوية في اهتماماتنا وسياساتنا. نحن، وللأسف، أصبحنا مجتمعاً راكداً يقتل الوقت بالضجر والملل، مجتمعاً مستسلماً لثقافات التعصّب والتقليد والشعوذة والتسليم بالقدر والإنسحاب والرضوخ والرضى والطاعة والميوعة واللامبالاة، والأنانية والاتكالية والتلذذ بالأحلام الطوباوية، ومتماهياً مع الثقافات الغربية (الآنية) المعادية لتاريخنا والمهتمة بالجوانب المادية على حساب النظرة المعنوية للإنسان والحياة.

ما نحتاج إليه هو أن نتبنى ثقافة نهضوية جديدة تستند إلى حرية الفكر والمعتقد وإلى الإيمان بنفوسنا وحقيقتنا وبالعقل المتحرر والفاعل. فبدون هذه الثقافة المنعشة والمرتكزة على العقلانية لا يمكن لمجتمعنا أن ينهض ويحقق ما يصبو إليه.

 

 

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

عمر حلمي الغول

عمر حلمي الغول يكتب : الأول من أيار وحرب الإبادة

نبض الحياة الأول من أيار وحرب الإبادة عمر حلمي الغول حروب إسرائيل النازية على الشعب …