الرئيسية / الآراء والمقالات / ادمون ملحم يكتب : المفكر وعالم الإجتماع: د. حليم بركات

ادمون ملحم يكتب : المفكر وعالم الإجتماع: د. حليم بركات

د. ادمون ملحم

المفكر وعالم الإجتماع: د. حليم بركات

د. ادمون ملحم

الكتابة عن الراحل البروفسير حليم بركات تعني الكتابة عن باحث وعالم إجتماعي خبير في قضايا العالم العربي، وروائي بارز شاهد على عصره ومروّج لحرية الفكر والتعبير والصراع الفكري ومطالب بتنشيط الثقافة ودور المرأة وتعزيز البحث العلمي والفكري وتشجيع التفكير النقدي والتمرّس بالإبداع. هذا المفكر الذي كرّس حياته في خدمة العلم والثقافة والأدب والذي استخدم فكره وخياله في سبيل تحقيق صورة مستقبلية لمجتمعات العالم العربي كان له رؤية متميّزة في الفكر والتغيير الاجتماعي والثوري وفي قراءة واقع العالم العربي المتخلف وأزماته.

حليم بركات الباحث والروائي:

تشكِّلُ كتابات الدكتور حليم بركات المتعدّدة نوعاً من الثقافة الراقية وقد جمع فيها بين الأدب والفكر والفلسفة والبحث الأكاديمي والسيرة الذاتية. ويعتبر رائداً في علم اجتماع الرواية والسيرة الذاتية وباحثاً معمّقاً في ظواهر ثقافية عديدة أهمها نزعة الخضوع والتسليم، علاقة الحب بين الرجل والمرأة، نقد المجتمع وسلطويته، الكتابة الثورية، والإبداع الأدبي وعلاقته بتجربة النفي والغربة.

إنتمائه إلى الحزب القومي:

آمن حليم بركات بالكلمة واعتبرها قمحه وحصاده وبيدره.. وعندما اكتشف طاقاته الأدبية، أظهر ولعاً شديداً في كتابة الرواية، فكتب مجموعة من الروايات، الغنية بالأوصاف والأفكار الفلسفية والتحليلات، لاقت انتشاراً واسعاً لما تناولته من قضايا وذكريات وأحلام ولما صوّرته من أوجاع وإنتكاسات وخيبات أمل محبطة. وفي روايته “المدينة الملّونة”، حدّثنا عن ماضي المدينة، بيروت، التي “كانت، كالأساطير، وهمية وحقيقية في آن معاً” ، والتي عاد من المنفى الطوعي ليزورها بعد الحرب الأهلية المتوحشة ويتجوّل في شوارعها وأزقتها وساحاتها التي عرفها معرفة حميمية، متأملاً المشاهد البشعة وأماكن الدمار العبثي.. ومن خلال مشاهداته لآثار الدمار المروّع، روى لنا قصصاً بشعة عن معاناة هذه المدينة التي فقدت أشجارها ومعالمها القديمة.. ويتساءل بركات بلسان نادر الكفروني: “كيف وصلنا إلى حيث نحن؟ من صنع كل هذا الدمار؟” وكان جوابه الواضح: “الجنون هو الذي أوصلنا للدمار.”

كما روى لنا حكايات وذكريات استيقظت عن طفولته الثانية وفتوته وعن تجاربه وطموحاته الشخصية منذ نزوحه مع شقيقه كمال وشقيقته ندى من قريته الكفرون عام 1942، ليلتحق بوالدته مريم التي استأجرت لهم مسكناً في رأس بيروت والتي مارست الأمومة على أعلى مستوياتها فنذرت نفسها كلياً لأطفالها وجاهدت جهاد الأبطال فتعلّم منها أسرار الكفاح. روى لنا بكل دقة وتفصيل وتشويق وبروح ممتلئة بالأمل، حكايات عن أصدقائه وزملائه وأقربائه وجمال القرية وطيبة الناس وعن إبنة عمه بهية وعلاقته بصّبّا وحبيبته رؤى، وخاصة عندما كان يتمشى معها على الكورنيش يرافقهما صديقه عادل الأميوني الذي يتحفّظ دائماً على كلامه ويطالبه بالتحرّر من مخيلته لأن المطلوب هو العلم والتفكير العلمي لحل مشكلات العصر.. وروى لنا ذكريات عن المدينة التي يزداد تعلّقاً بها وعن دروبها وشوارعها وساحاتها وأسوارها، عن شخصياتها وقبضاياتها وأسواقها ومقاهيها وفنادقها، وعن مساجدها وكنائسها ومدارسها وتاريخها وصورها القديمة وشواطئها الصخرية تتلاطم عليها أمواج البحر، وحدّثنا عن صراعات خاضها من خلال الكتابة والعمل مع عدد من الطلبة في الجامعة ضمن حركة حزبية نهضوية معرّضاً نفسه لإحتمالات السجن وربما القتل، وعن أحلام باهرة اندثرت كأوراق الخريف “حلماً بعد حلم، وبعد أن تعاهدنا على أننا كلما بلغنا قمة سنطمح للوصول إلى قمة أكثر إرتفاعاً، وألا نتوقف عند أفق بل أن نبحث عن أفق آخر.”

ويروي لنا بركات ذكرى جميلة قال أنه لن ينساها لأنها كانت هدية من أجمل الهدايا التي تلقاها في حياته قدّمها له صديقه الفنان زكي ناصيف الذي جاء لتهنئته بزواجه من رؤى إذ عزف على عوده لحناً جديداً وغنى “يا عاشقة الورد” فكانا أول من سمع هذه الأغنية الجميلة.

حليم بركات الذي تربى في عائلة فقيرة ومتواضعة، بدأ وعيه يتفتح في المرحلة الثانوية الأخيرة، ووجد نفسه يبحث في معنى الحياة ويتأمل في شؤونها ويناقش في القضايا التي تستحق الإهتمام. وأدرك ان الحكام الوطنيين حلّوا محلّ الإنتداب الفرنسي لا ليغيّروا الأوضاع، بل لتعزيز مصالحهم الشخصية على حساب الشعب والمجتمع. كما شاهد معاناة الفلسطينيين المشرّدين الذين قُذفوا في جحيم المخيمات واصبحوا عرضة لذئاب العالم الشرهة. ورأى ان الوقت حان ليشغل نفسه بقضايا المجتمع إذ “لا يكفي أن تنقذ نفسك، فهناك أيضاً مهمات إنقاذ الأمة من تنين يهددها في صميم وجودها.”

في هذه المرحلة، أدرك بركات ان الحكومات اللبنانية لم تطلق إلا الوعود الكاذبة بشأن إلغاء الطائفية. فلقد واظبت على ترسيخ الطائفية في مختلف المجالات وان الميثاق الوطني الطائفي الذي تم بين أهل السلطة خدمة لمصالحهم الخاصة لا علاقة له بالشعب. فلقد فرض هذا الإتفاق الفوقي على الشعب.

وبعد ان قرأ بركات لجبران خليل جبران، الثائر على أدب الكتب والثقافة السائدة والمؤسسات والقهر الاجتماعي والرافض القيود والأنماط المألوفة، تحرّر من الخوف وحلّ في حياته “زمن التمرد مكان زمن الصمت والولاء والإنطواء على الذات” .. وبدأ يكتب، كجبران، بدم القلب وبلغة الحياة والثورة التي تريد استئصال الأضراس البالية السوداء في الأمة السورية.. وتولّد في نفسه شعور يعتّز به وهو الحرص بأن يفيد المجتمع ويعطيه من نفسه أكثر مما يأخذ منه.

عندما أعدم أنطون سعاده رأى شقيقه كمال يبكي ووجد نفسه يبكي معه متمنياً لو تعرّف إلى أنطون سعاده الذي رأه في بدايات طفولته حين زار الكفرون عام 1936 كما رأه مرة يسير في شارع “بلس”.

ويروي د. بركات ان صديقه عادل الأميوني قرّبه إلى الحزب القومي بعد ان أعطاه “المحاضرات العشر” و”نشوء الأمم” و”الصراع الفكري في الأدب السوري”. قرأ حليم بركات الكتب الثلاث بتمعن واهتمام خلال شهر من الزمن ووجد نفسه يقرأ لغة سياسية جديدة. وبعد تردد ساوره ودفعه لإعادة النظر بفكرة الإنضمام إلى الحزب لأن الأمور أكثر تعقيداً مما يظن، بدأت الأسئلة تتوارد إلى ذهنه: “ماذا يحدث لي حين أنضّم إلى حزب وهل أتخلّى عن حريتي وأرضخ لمشيئة فوق مشيئتي؟ هل أبحث عن خلاصي الفردي فيما أظن أنني أناضل من أجل اقامة مجتمع جديد وفي سبيل خلاص الأمة؟ كان محتاراً ولكنه تعلّم من جبران “ان الحيرة هي بدء المعرفة.”

وفي جلسة مع صديقه عادل، الذي انجذب إلى الحزب بسبب ما سمعه من كلام عن “المناقبية” الجديدة، حصل نقاش بين الأثنين. ونصحَ عادل صديقه بأن يتحرّر من مخيلته المجنّحة وأفكاره الفردية والإنضواء “في حركة شعبية ثورية همّها تغيير الواقع والتاريخ.” وأوضح له إستحالة التغيير من دون العمل الشعبي ومشاركة الجماهير. عندئذ “نكون كمن يقرأ التاريخ لا كمن يصنعه.” وقال له: “هل تريد أن تقرأ التاريخ أم تريد أن تشارك في صنعه؟ وأضاف: “قلةٌ نحن ولكننا خميرة المجتمع والمستقبل الذي سنصنعه بكفاحنا وموتنا.”

وذهب بركات مع عادل ومجموعة من الطلبة إلى دير القمر للمشاركة في ثورة الاحتجاج لإسقاط بشارة الخوري وهناك شاهد الأعداد الضخمة من القوميين الاجتماعيين المشاركين في الحشد الشعبي الكبير وهي أشبه ما تكون ببحر متموج لا شواطىء له. وشعر بركات “أنه جزء من قوة كبرى تستطيع أن تحقق شيئاً هاماً فبدأ يدرك أن صديقه عادل قد يكون على حق حين نصحه بالخروج من عالم مخيلته المجنّحة ليشارك في صنع التاريخ على أرض الواقع.”

ورغم علمه بخطورة العمل الحزبي ووصية أمه له بأن لا يشارك في نشاط الأحزاب، إنتمى بركات وبكل عزم إلى حزب أنطون سعاده في السنة الثالثة بعد إعدام سعاده وتابع قراءة أعماله بنهم، منجذباً أكثر فأكثر لشخصية سعاده وكتاباته. ويذكر:

وبقدر ما قرأتُ أنطون سعاده وتعرّفتُ إلى مواقفه، شعرت بإنجذاب لشخصيته كما لكتاباته وقدرته على الجمع بين الفكر والعمل وبين مختلف الطوائف والقبائل وغيرها من الإنتماءات الموروثة. وجدت أن لغته الخاصة ورؤيته المستقبلية، ورأيت فيه قائداً جذاباً جمع بين الصراع الفكري والصراع السياسي والصراع الإجتماعي فدعا إلى حصول تجديد في النظرة إلى الحياة بقصد إحداث ثورة روحية-مادية وإجتماعية سياسية.

ويبدو ان كتاب “الصراع الفكري في الأدب السوري”، ترك الأثر الأكبر في تفكيره، وهو المولع بالأدب أكثر من السياسة. لم تجذبه شخصية سعاده فحسب، إنما رؤيته الجديدة للحياة:

وسحرتني شخصية سعاده من خلال كتاباته وإطلاعي على مختلف جوانب حياته. إعتبرتُ أنه جسّدَ حلماً جديداً، ورأيته إنساناً جميلاً، أنيقاً، مهذّباً، هادئاً، محباً، مشرقاً، بريئاً، متحرّراً، رائداً، مجابهاً، صادقاً. ولأنه كان يجسّد رؤية جديدة للحياة، كان لا بدّ من القضاء عليه من قبل أهل النظام القائم على التقاليد. أعدموه بعد سنتين على عودته من المنفى في 8 تموز بعد محاكمة صورية في المحكمة العسكرية ونفذ به الإعدام خلال 24 ساعة من القبض عليه.

وبين رفقاء ورفيقات من مختلف الطوائف، بدأ بركات كفاحه من أجل تحرير فلسطين ووحدة كيانات الأمة، وانخرط في العمل الثقافي متفاعلاً مع مجموعة من الأدباء والشعراء والصحافيين والشخصيات المعروفين بعلاقتهم بالحزب القومي وباشرَ، وبوحي من نظرة سعاده إلى الحياة والكون والفن، بالمساهمة في مقالات أدبية في بعض الصحف وبالكتابة عن الصراع الفكري في الأدب السوري على صفحات “البناء” محللاً وعارضاً لما فيه من مفاهيم جديدة ومن دعوة إلى التجديد في الأدب والفن. وفي كتاباته، حاول حليم بركات تمرير أفكاره ورسائله المبطّنة حول حرية التفكير معتبراً أن الكاتب يجب أن يكون “حراً متمرداً ناقداً” وعليه أن يلحّ في طلب حريته المسلوبة.. ولم يترك بركات مناسبة إلا ودافع فيها عن سعاده وأفكاره.

وأثناء تدريسه في مدرسة برمانا العليا، رَتَّبَ بركات “سلسلة من المحاضرات والنقاشات الثقافية شاركت فيها أسماء لامعة مثل نزار قباني وبدوي الجبل وجبرا ابراهيم جبرا وأدونيس ويوسف الخال وخليل حاوي وتوفيق صايغ وأنسي الحاج وبدر شاكر السياب ومحمد الماغوط وغيرهم.” ويُعبّر بركات عن اعتزازه بالتعرف على أدفيك شيبوب وعن سعادته بالتعرّف إلى الأديب القومي الإجتماعي سعيد تقي الدين الذي اعتبره إنساناً وفناناً رائعاً وساخراً، وبل مأساوياً. فيقول: “أسعدني جداً انني تعرفتُ إلى سعيد تقي الدين الذي حبّب لي كتابة القصة واكتشفت انسانيته التي تفيض طيبة وكرماً فكان من القلائل الذين يجمعون في شخصهم بين الروعة في كتاباته الساخرة وسلوكه في الحياة العامة.” إن إعجابه بتقي الدين دفعه إلى البكاء عندما علم بوفاته في المهجر بعيداً عن الوطن. كما تعرّف إلى ضباط من أمثال غسان جديد ومحمود نعمه ومعين عرنوق، وأساتذة وكتّاب وصحفيين من أمثال رامز ورجا يازجي ونذير العظمة وعلاء حريب.

ويمكن ان نستخلص ان انتماء حليم بركات للحزب القومي واطلاعه على فكر انطون سعاده المرتكز على قواعد علم الاجتماع كان لهما الأثر الكبير في تفكيره وفي مسيرته العلمية-الأكاديمية الطويلة في البحث والتحليل والكتابة وفي الدعوة إلى التغيير. فدعوة سعاده إلى تغيير واقع الأمة وإحداث نهضة قومية إجتماعية شاملة تساهم بإنهاض العالم العربي نجد أثرها في هواجس حليم بركات وأحلامه بتغيير واقع العالم العربي وبالعمل لإقامة مجتمع إنساني جديد.

وأثر سعاده في تفكير حليم بركات – العالم الإجتماعي يبدو واضحاً من خلال إستجابة بركات إلى ما دعا إليه سعاده في مقدمة كتابه “نشوء الأمم” بضرورة فهم الواقع الاجتماعيّ وظروفه.. وهذا ما فعله حليم بركات خلال مسيرته الأكاديمية الطويلة. فلقد كرّس جهوده وإمكانياته العلمية والأكاديمية لدراسة الواقع الإجتماعي في ظروفه وطبيعته، كما حدّدَ سعاده. فإنشغل في إجراء الأبحاث والدراسات لفهم حقائق الحياة الاجتماعية ومجاريها في أمته وفي مجتمعات العالم العربي، وسلّط الأضواء في أبحاثه على دراسة مؤسسات العائلة والدين والسياسة والاقتصاد وغيرها وتشابكها مع بعضها في سياق تاريخي، وعلى قضايا ثقافية وإجتماعية جوهرية وحسّاسة وشائكة.. وانطلاقاً من هذا الفهم العلمي- الاجتماعي- النفسي لواقع المجتمع، أستطاع حليم بركات العالم المتفحص ان يقترح الحلول ويدعو إلى وضع سياسة استراتيجية شاملة لعملية التغيير الاجتماعي والثقافي. ويبدو أثر سعاده في اتجاه بركات البحثي واضحاً من خلال تركيزه على مسائل وقضايا شغلت تفكير سعاده وشكّلت حيزاً كبيراً من إهتماماته، كمسائل التجزئة القومية، والهوية، والطائفية، والدين، والتفكير التقليدي- الرجعي-الغيبي، والثقافة، والوعي القومي، وغيرها.

وفي رواياته، يستعيد بركات اسطورة التنين المتعدد الرؤوس التي كان سعاده قد تحدّث عنها في خطابه في البقاع الأوسط عام 1948. وفي روايته “المدينة الملّونة”، يتوسع بركات في وصف هذه الأسطورة والإعتقاد بها ويسرد قصة البحث عن التنين ومناقشة أسباب الدمار الذي لحق بمدينة بيروت. من يعبث بأمن البلد ومصيره؟ هل تقع المسؤولية على التنين؟ ومن يكون هذا التنين الذي أحرق الحقول والمزارع؟ ويحاول إستكشاف الحقيقة من خلال تقديم عدة إحتمالات تبين لنا ان هذا التنين هو ذاته التنين المتعدد الرؤوس الذي تكلم عنه سعادة.

ولكن كيف نقضي على التنين؟ يقول بركات:

“لزمن لم نشهد فارساً منقذاً حتى أصبحنا، إذا ما جاء من يدعّي هذا الدور، ننكره ونساهم في اغتياله.” فهل هذا الفارس المنقذ هو أنطون سعاده الذي أنكروه وأعدموه في الثامن من تموز؟

 

 

 

 

 

 

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

سفير الاعلام العربي في فلسطين
رئيس تحرير جريدة الصباح الفلسطينية

سري القدوة يكتب : حرب الإبادة وانتهاكات الاحتلال بحق الأسرى

حرب الإبادة وانتهاكات الاحتلال بحق الأسرى بقلم  :  سري  القدوة السبت  27 نيسان / أبريل …