الرئيسية / ادب وثقافة / سعيد الصالحي يكتب : مغامرة الحمار قصة قصيرة

سعيد الصالحي يكتب : مغامرة الحمار قصة قصيرة

سعيد الصالحي

مغامرة الحمار
قصة قصيرة – الجزء الأول
سعيد الصالحي
في صبيحة يوم من أيام الحرب التي لا تنتهي على غزة، إلتقى حمار بغراب بالقرب من شجرة خشخاش تستسقي من غدير صغير هي وكل مخلوقات الغابة إلا راعي الأغنام الذي لا يشرب إلا المياه الصحية المعقمة بالأوزون والخالية من الصوديوم، فبادر الغراب الحمار بتحية الصباح بنعيب متقطع فردها الحمار على الفور بنهيق متصل، قفز الغراب فوق ظهر الحمار وقال له: مالي أراك تسير كما ولدتك أمك أين بردعتك؟ هز الحمار رأسه ومضغ الأعشاب التي كان يلوكها في فيه وقال: لقد غافلت الجميع وفررت من الحظيرة، ولعلك تريد أن تسألني لماذا أقدمت على هذه الخطوة المجنونة؟ قفز الغراب نحو الأرض ليريح رقبة الحمار وليستمع لبقية حكاية الحمار وهو يبحث بين الأعشاب عما يكسر به الصفرة، نظر الحمار نحو الغراب وتابع حديثه متسائلا: هل تعرف يا أخي كم هو قاتل هذا الروتين؟ فأنا استطيع أن أحمل عشرات الكيلو غرامات من الاتربة والصخور وصناديق البرتقال فوق جسدي، ولكن روحي لم تستطع حمل وتحمل الروتين، فأنا حمار متعب الروح وإلى الآن لم يستوعب صاحب الحظيرة بأن سوطه وبرسيمه وسطل الماء وسقف حظيرته لن يتمكنوا من ترويض الحمار الوحشي الصامت الذي يسكنني، فأنا ابن السهل والمروج، وأنا سليل الحمر المخططة على الرغم من لوني الرمادي الشاحب، انا ابن من رحلوا خلال هجرتهم نحو الشمال عندما تكالبت عليهم قطعان الضباع النهمة التي لا تشبع، لم يغادرني يوما حلمي بالعودة نحو الجنوب لارتدي جلدي المخطط من جديد، فأنا لم أهرب من الحظيرة بقدر محاولتي للخلاص من ذاتي والتخلص من معاناتي التي كتبها لي ضبع لعين بعين واحدة ذات يوم، فأنا لا أصلح أن أكون مطربا رغم أذني الموسيقية، ولا أصلح رباعا لحمل الأثقال في مسابقات البشر، ولم أجد ما أقاطعه من المنتجات الامبريالية، لقد أمسيت حمارا تقليديا كأي حمار في مدن العالم، لقد مللت عملي واسمي وتشبيهات الناس لبعضهم البعض باسمائي وصفاتي، هل تعلم يا صديقي الغراب بأنني سأقبل أن أعود حمارا أهليا تقليديا وأتفرغ للحمل والشحن في حالة واحدة فقط؟ وحينها ربما أتخلى عن مغامرتي وأعدود طوعا إلى ذاتي وحظيرتي، وهي تلك اللحظة التي أحمل فيها الطحين والزيت والدواء إلى مدينة غزة، هل تعرف غزة أيها الغراب؟
نعب الغراب محاولا محاكاة النهيق وقال: لقد كنت هناك قبل عدة أيام وكم تمنيت أن أكون دجاجة حتى أضع البيض لذلك الطفل الذي تطير مني عندما سمع صوتي، فأنا كنت أنعب ألما وحسرة عليه، وهو كان يصرخ ويقذفني بالحصى الصغيرة كأنني الشيطان، لقد نسي الفتى الطائرات الصهيونية وأصبح يقذفني بحصاه المضادة للغربان، ومع هذا كنت أتجنب رمياته بكل محبة وسعادة، فهذا الطفل قد ولد مقاوما لم يزل مقاوما وسيبقى مقاوما، فغربان فلسطين قد انضمت بدورها للمقاومة وتعمل اليوم مع فرق الاسعاف، ولا تنعب إلا عندما تجد ناج تحت الركام أو شهيدا فوق بقايا الأسفلت، ليتني بقيت هناك مسعفا، كم كنت غبيا عندما عدت، لقد نجوت من قبتهم الحديدية بأعجوبة في رحلة الذهاب والعودة.
فاقترح الحمار على صديقه الغراب أن يشكلا وفدا من الأصدقاء لجمع المساعدات وحملها إلى غزة، فتخلت بعض الخراف عن كيس من أعلافها وكذلك قدمت البقرات، والعصافير لم تبخل بقمبزها، وحمائم الحي القريب من الغابة غافلت كشيشها وتبرعت بكيس من الذرة البيضاء، أما كلاب وقطط المنازل فقدموا بعض الطعام الجاف الفاخر، أما كلاب الشوارع فلم يقدموا سوى الدعوات للمقاوم والشتائم للغاصب والغازي، كل من في الغابة قدموا ما توفر لديهم، أما الحمار صاحبنا فقد تبرع بحمل كل المواد نحو غزة، والغراب سيكون دليله الجوي والبري نحوها، وبعد رحلة شاقة وكر وفر بين المعابر وصل الحمار إلى غزة فلم يجد أي حمار في استقباله ولا كلب أو قطة، حتى بغل عربة الاسعاف قد أصيب ولا يقوى إلا على البكاء، كل الحيوانات والطيور قد قضوا وهذه المساعدات لا تصلح للإنسان، نظر الحمار إلى الغراب بحسرة وقال: كل هذه المشقة ولم نجد أحدا، تعبنا في جمع المساعدات وبذلنا جهدا خرافيا للوصول إلى هنا، والأهم أنني تخليت عن حلم الهروب، لتذهب هذه الرحلة سدى، يا له من حظ عاثر.
هز الغراب جناحيه وحلق نحو عمود من الدخان ثم عاد وهو ينعب فرحا ويصيح: هيا أيها الحمار، انهق بصوت عال وأحمل مؤنك واتبعني، فما زال هناك حظيرة على بعد شارعين.
مغامرة الحمار
قصة قصيرة – الجزء الثاني
سعيد الصالحي
كانت الرحلة نحو الحظيرة أكثر خطورة من الرحلة الأصلية الأولى، كان الحمار يقفز قفزا بين الحفر كأنه كنغر استرالي رمت به الدنيا إلى غزة، وصل الحمار منهكا نحو الحظيرة، دخل بساقه اليمين ونهق مستأذنا فلم يأذن له أحد بالدخول، دفع بوابة الحظيرة واندفع داخلها فلم يجد إلا جثث الحمير واشلاء حمل صغير وبعض العجول الصغيرة المختنقة، تفقد الحمار كل زوايا الحظيرة ونهق بحزن وفرت الدموع من عينيه وقال لصديقه الغراب: لقد وصلنا بعدما فات الآوان، اذهب واكتشف حظيرة أخرى، لعل أصدقائنا في مكان ما، وأنا سأبقى هنا أردد الصلوات على أرواحهم حتى يخف وجع روحي، طر يا صديقي ولا تذرني هنا وحيدا لفترة طويلة.
حلق الغراب في سماء المدينة تارة ينظر بعين الصقر وتارة يتحسس الاصدقاء كالهدهد، عاد بعد ساعات فوجد الحظيرة قد سقطت وكان الحمار مغشيا عليه بجوار أحد الجدران ولكنه ما زال يتنفس، اقترب منه الغراب ووكزه بأحدى قدميه، وقال له: هل أنت بخير أيها الحمار؟ حرك الحمار جفنيه وقال: أنا بخير ولكن المؤونة قد احترقت وصارت رمادا تحت الانقاض، نعب الغراب وحث الحمار على النهوض.
في طريق العودة بعد رحلتهم الفاشلة قال الحمار للغراب: ماذا سنقول للرفاق عندما نعود؟ فأجاب الغراب سنخبرهم الحقيقة دون شك، فيجب أن يعرف الجميع حقيقة ما يحدث، أنا وأنت شاهدان على المجزرة ويجب أن تنهق لتسمع العالم، هز الحمار رأسه موافقا ومؤيدا مقترح صديقه، وقال له: أو ليس من السخرية أن تنعب وأن أنهق لنسمع العالم! أن نسمع عالما يكره أصواتنا وأشكالنا أكثر من الموت، مهما فعلنا يا صديقي لن يصغي لنا أحد، فأنا وأنت منبوذان ومكروهان، فأنا مهما قدمت حمارا وانت مهما علوت غرابا هيا بنا لنعود إلى حيث لا ننتمي ومضيا قدما نحو الغابة.
كان الحمار طوال الطريق يدندن بأغنية غريبة وبصوت خفيض، أما الغراب فكان يحط على رأس صديقه الحمار كلما تعب من الطيران أو من مشاهد الدمار التي يراها من الأعلى، كان يستمع لأنشودة الحمار التي لم يفهم كلماتها ولكنه أعجب بشجنها ومقامها الموسيقي، فنظر الغراب في وجه الحمار وقال له: هل تعرف يا صديقي الحمار أن صوتك جميل جدا؟ وأتمنى أن يكون عندي مثل صوتك العذب، نهق الحمار ضاحكا وقال: ما رأيك لو تبادلنا الأصوات؟ فأنا اعرف ذئبا حكيما يسكن كهفا بالقرب من غابتنا ويستطيع أن يجري لنا عملية تبادل أصوات، أنا بدوري لن أتردد بمنحك نهيقي على أن تهبني صوتك، فالحمير تموت اذا عاشت بلا صوتها.
فكر الغراب في الأمر قليلا وقال: أنا أخاف العمليات الجراحية واكره البنج، إن كانت عملية تبادل الأصوات ستجري على هذا النحو فأنا أسامحك في صوتك، ضحك الحمار وقال: لا تقلق فالذئب لديه من الطرق والأساليب لانجاح الأمر دون دماء ومشارط، ماذا قلت هل نغير طريقنا نحو كهف الذئب الحكيم؟
هز الغراب رأسه موافقا ومضيا نحو الكهف.
كان كهف الذئب الحكيم في الصحراء البعيدة، وصل الصديقان إلى الذئب الذي رحب بالحمار كجائع يرحب بوليمته، وعلى الفور استدرك الحمار رغبات الذئب اللامعة في عينينه وقال له: مرحبا أيها الحكيم لقد جئنا إليك لاجراء عملية، لا لتلتهمني أنا وصديقي فأنا قد سمعت عنك وعرفت أنك نباتي والكل يتحدث عن قدراتك الخارقة ومعرفتك العميقة. ابتسم الذئب في وجه الصديقين واختفت نظرة الجوع من عينينه وحل مكانها وقارا في صوته واعتدالا في وقفته ، وبدأ يستمع لهما حول نيتهما بتبادل الأصوات، ثم قال لهما: هل تودان تبادل الأصوات؟ فقط فأنا سأجري عملية واحدة واستطيع خلالها أن أبدل وأغير أكثر من عضو أو صفة ولكنني لا أقوى على تغيير الاسماء، تبادل الصديقان نظرات التفاهم المشترك وقالا بصوت بواحد: الصوت فقط.
ابتسم الذئب وقال لهما: هيا أمامي لندخل الكهف فكل تمائمي وبخوري وكتبي هناك، انعب أيها الغراب لتودع صوتك وانت كذلك أيها الحمار ولكن انهق بهدوء لئلا يجتمع عليك أقاربي وتمسي في بطونهم فجنون الحكمة لم يمس كل قطيع الذئاب، هيا يا رفاق فالعملية ستستغرق وقتا. ومشى أمامهما بكل تيه وثقة وهما تبعاه بخوف وتردد.
 

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

received_403550599263065

صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون اليوم كتاب الدكتورة

صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون اليوم كتاب الدكتورة  شفاء أحمد علي مستريحي  ظواهر أسلوبية …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *