الرئيسية / الآراء والمقالات / د ادمون ملحم يكتب : التنمية ومجتمع المعرفة

د ادمون ملحم يكتب : التنمية ومجتمع المعرفة

د. ادمون ملحم

التنمية ومجتمع المعرفة

د. ادمون ملحم

التنمية المُستدامة موضوعٌ حيويٌ ومهمٌ يُشَّكِلُ هاجساً مستمراً للكثير من الدولِ والمنظماتِ والهيئاتِ الدولية، ويعني كل المهتّمين ببناء الإنسان الجديد ومجتمع المعرفة والنهوض بأمتنا نهوضاً شاملاً غايتُه تحقيقُ الحياةِ الراقية الجميلة لشعبنا.

التنمية تعني تحسين نوعية الحياة وتحقيق الرفاهية لجميع أفراد المجتمع. والتنمية المُستدامة هي تنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة ومتناغمة ومستمرة، دون الاضرار بنوعية الموارد الطبيعية التي تستخدم في الأنشطة البشرية.

في العقود الأخيرة شَهِدَ العالم تحولات في ميادين الاقتصاد والاجتماع والمعرفة وتغييرات واكتشافات ومستحدثات رهيبة في مختلف العلوم والفنون والتكنولوجيا، ونتيجة لهذه التحولات والتغييرات تطورَ مفهومُ التنميةِ ولم يَعُدْ محصوراً في النموِّ الاقتصاديِّ وحدِه، بل أصبح مفهوماً شاملاً يُنظرُ إليه من زوايا متعددة: اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وبيئية وقانونية وغيرها. ويتجهُ الاهتمامُ بالتنميةِ حالياً نحوَ التركيزِ على قضايا متنوعةٍ (مثل التفاوت والعدالة في توزيع الدخل والثروات والقضاء على الفقر والحرمان والجهل والمرض ومحاربة البطالة والفساد، ألخ…) وعلى إحداثِ تغييراتٍ جوهريةٍ في العلاقات التي تربط الدولة بالنظام الاقتصادي العالمي وفي البُنى الاقتصاديةِ والسياسيةِ والثقافيةِ والإداريةِ للمجتمعِ وتطويرِها وبناءِ قدراتِهِ الذاتيةِ والإبداعيةِ وتحريره من شتى صنوف التمييز والاستغلال والتبعية وتمكينِهِ من السيطرةِ على شروطِ تجدُدِهِ وتطورِه…

ويتزايدُ الاهتمامُ بالتنمية على التركيز، أولاً، على العنصر البشري وتنمية قدرات الموارد البشرية على أساس أن غايةَ التنميةِ هي “الإنسان” وتحسينُ حياتِهِ وقدراتِهِ وجعلِهِ مواطناً صالحاً مصقولاً بقيم الحب والخير والحق والجمال ومتسلحاً بالعلمِ والمعرفة الفاضلة والمناقب السامية. فالإنسانُ هو محورُ التنمية. فهو صانعُها وهدفُها والمستفيدُ منها. والبشرُ هم ركيزةُ تقدمِ الدولِ والثروةُ الحقيقيةُ لأيةِ أمة.. وثانياً، على تحسين نوعية الحياة وإتاحة فرص ومجالات الاختيار أمام الناس وبناءِ ثقتِهِم بأنفسهِم وإطلاقِ طاقاتِهِم على العطاء والإنتاج والإبداع والارتقاء المستمر بمستويات قدراتهم العلمية والتكنولوجية وطموحاتهم وتطلعاتهم ومشاركتهم الفعاّلة في صنع السياسات القومية وفي تقرير شؤون مجتمعهم بوجود الشفافية والحرية والديمقراطية.

ويتجه الاهتمام بالتنمية إلى التركيز على قضايا المرأة والتعليم والتوعية والصحة وعدم استنزاف الموارد الطبيعية والزراعية والحيوانية وحماية البيئة والحفاظ عليها من أخطار التلوث والتبديد والتخريب والتصحّر والجفاف وضمان مصالح الأجيال القادمة.

والتوجه المعاصر للتنمية يُركّز أيضاً على بناءِ مجتمعٍ معرفيٍ ينبثقُ عنه اقتصادٌ معرفيٌ قويٌ ومتطورٌ قائمٌ على الخُبُراتِ والبحوثِ والمواردِ البشريةِ والتعليمِ والابتكارِ والاستخدامِ الواسعِ والفعّالِ لقوةِ المعرفةِ وإنتاجِها ولتكنولوجيا المعلوماتِ والاتصالات. فالمعرفة حلّت محل الرأسمال كعامل أساسي في تحريك قدرة الاقتصاد وزيادة الإنتاجية وتحسينها وأصبحت طاقة متجددة لا تنضب وقوة محرّكة للإستثمار والتحديث ومنتجة للخدمات والمعلومات والبضائع المادية المتنوعة.

وبالعودةِ إلى واقعِ أمتِنا المأساوي وعالمنا العربي، نسأل:

أينَ نحنُ من التنميةِ المعرفيةِ والبحوثِ العلميةِ وإتقانِ العلومِ الحديثةِ واقتناءِ التكنولوجيا وتوطينِها؟ أين هي دولُ العالمِ العربيِ كلِّها من مراكزِ البحوثِ والدراساتِ والابتكاراتِ التكنولوجيةِ ومن التنميةِ المستدامةِ والمتواصلةِ والمتوازنة؟ أين هي هذه الدولُ من تعزيزِ ثقافةِ الإبداعِ والابتكارِ ومن الديمقراطيةِ التي تحققُ التنميةَ في كافةِ أنشطةِ الحياة؟ أوَليسَ تضاءلُ، أو ربما غيابُ، الممارسةِ الديمقراطيةِ في هذه الدول، دليلًا على تدني حالةِ التنميةِ فيها؟

التنميةُ، برأينا، هي ليست النمو الاقتصادي وحده، بل هي عمليةُ نهوضٍ وتطويرٍ وتنميةٍ شاملةٍ مرتبطةٍ بالجذورِ الثقافيةِ والاجتماعيةِ للمجتمع ونابعةٍ من داخلِه، من تراثِ الشعبِ وقيمِهِ وثقافتِهِ الأصيلةِ ومن إرادتِهِ القوميةِ وتضامنِهِ وجهده، وغايتُها “تجويدُ حياةِ الإنسان” نوعاً وجوهراً وتوفيرُ الحياةِ الأفضل والأجمل له.

والتنميةُ، قبل كل شيء، هي بناء النفوسِ، في التربيةِ الصحيحة النبيلة، وتحريرِهَا من المساوىءِ والأهواءِ والنزواتِ ‏الفرديّةِ وبناءَ الدولةِ العصريّةِ الديمقراطيةِ المنبثقةِ عنْ إرادةِ الشعبِ التي تُساوي بينَ كلِّ المواطنينَ في الحقوقِ والواجباتِ. وهي بناء المواطنِ الصالحِ اللاطائفي وإثراء وجدانه وتنمية طاقاته الخلاّقة، أي بناء الإنسانِ الجديدِ الحرِّ، المؤمنِ بنفسِهِ وإنسانيتِهِ وبِقيَمِ الحياةِ ومُثُلِها والمتسلحِ بالعقل والوجدانِ القوميِّ وبقوةِ العلمِ والمعرفةِ- معرفةِ ذاتِه وغايةِ وجودِه المجتمعيِ ومعرفةِ عدوِّه في حقيقةِ باطلِهِ ونفسيتِهِ وفي أطماعِهِ وأهدافِه.. الإنسانِ-المجتمعِ الذي يعملُ لخيرِ مجتمعِه ورقيِه والذي يرفُضُ العيشَ الذليلَ ويحيا لقضايا الحياةِ العالية والعميقة، حياةِ العزِ والشرفِ والإنتصار.

التنميةُ الحقةُ لا يمكن اكتشافها بصورة مفاجئة أو ارتجالها بحيث تتم بين عشية وضحاها.. ولا يمكن انجازها عن طريق تقليد تجربة أو نموذج غربي جاهز… إنما هي عملية تغييرية، ذاتية، مستقلة، تُصنع بأيدي وعقول أبنائها، ولكنها غير مغلقة على تجارب الدول الناجحة. هي مشروعٌ حضاريٌ جادٌ وشاملٌ وطويلُ الأمد تحققه إرادةٌ مجتمعيةٌ مؤمنةٌ وواعية. وهي ليست مسؤولية الدولةِ وحدها، بل هي مسؤولية جَماعية وأخلاقية، لا يقوم بها فرد أو مجموعة أفراد أو مؤسسات القطاع الخاص أو الدولة بمفردها، ولكنها تتم في ظروف ملائمة وفي إطار من المُساواة والعدالة والديمقراطية بمشاركة وتعاضد وتعاون الجميع أفراداً ومنظمات وأحزاب سياسية بالإضافة إلى الدولة ومؤسساتها. إن زيادة المشاركة الجادة والإيجابية لكافة مؤسسات المجتمع وأفراده مع الدولة ومؤسساتها، وفي ظل قوانين عصرية وآليات قانونية وتربوية، هي ما يحقق التنمية بشموليتها واستدامتها وعدالتها.

التنمية، باختصار، هي عملية مستمرة وتراكمية، تتطور وتتقدم مع تطور الزمن وتتطلع دوماً إلى المزيد فلا تتوقف عند حد ما أو عند نقطة زمنية معينة.

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

عبد الرحيم جاموس
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
رئيس اللجنة الشعبية في الرياض

د عبد الرحيم جاموس يكتب : ثورة الطلاب العالمية فلسطين تنتصر

ثورة الطلاب العالمية فلسطين تنتصر… احتجاجات الطلاب : من جامعة كولمبيا في أمريكا إلى طلاب …