فليس من المصادفة، ولا من باب المقتضى الإجرائي واللوجستي؛ أن يعزف الحاكمون الجدد عن طرابلس العاصمة، وعن الغرب عموماً، فلا ينتقلون الى العنوان السياسي والجغرافي لوحدة البلاد، ولا يجعلون طرابلس، مكاناً للإعلان عن استكمال السيطرة على ليبيا، أو عن 'تحرير كامل التراب' حسب تعبيرهم المفخّم، الذي يضاهي تعبيرات حركات التحرر المنتصرة، عندما تكنس الاستعمار عن أرضها!
غواية البترول، والسعي الى النفوذ في مناطق استخراجة، تتوخى مثالاً يوائم المستعمرين، وهو أن يكون هناك عدد أقل من السكان، في أكثر المناطق اختزاناً للطاقة في باطن أراضيها. فمن بين حقائق الجغرافيا الاقتصادية الليبية، أن مخزون البترول والغاز الطبيعي، يتركز في الشرق، وتعطي الديموغرافيا الليبية للغواية المذكورة، زخماً للمستعمرين، إذ يتجمع سكان رُبع سكان ليبيا فقط، في محافظات الشرق أو 'شعبياتها' حسب تعبيرات 'الجماهيرية' الراحلة. ذلك إن مجموع سكان الشرق الليبي، أي في محافظات البطنان، درنة، الجبل الأخضر، المرج، بنغازي، الواحات والكفرة، يبلغ نحو مليون وستمئة ألف نسمة، بينما مجموع السكان يزيد عن الستة ملايين ونصف المليون. ومن بين المواريث التي ربما يستغلها أصحاب الدسائس، أن الشرق هو مهد السنوسية ومسرحها الأول، بل إن صحراء الكفرة، كانت مستقر قلاعها وحصونها وقصورها. علماً بأنها كانت قوية الشكيمة وذات منحى توحيدي. والنعراتيون مثيرو الفُرقة والفتن، الذين يوجد مثلهم في كل بلد؛ ربما يركزون على تمرغ قبائل الغرب الليبي، في عهد القذافي، بنعيم المداخيل البترولية، بينما لم ينل الشرقيون سوى القمع والإقصاء.
هذا السياق الذي نحذر منه، لم يأت من فراغ. فقد بدأت أوساط الإمبرياليين الجدد، في الحديث عن التقسيم. وتوحي سلوكيات الشريحة المتنفذة في الحكم الجديد، الى نزعة انكفاء 'شرقي' كانت تتغالظ مع كل مرحلة تتقدم فيها قوات الثوار على الأرض.
ففي البداية كان التغني بطرابلس رمز ليبيا ورمز وحدتها، صارخاً وملحوظاً، بهدف تحشيد الأغلبية الشعبية الليبية في الغرب، ضد حكم معمر القذافي.
ومع إنجاز الهدف، ضنّت الشريحة الحاكمة، على طرابلس، بحقها في أن تكون العنوان الأول للثورة. هنا، نكون بصدد عوامل ذاتية في المشهد الليبي، تتماشى مع العامل الموضوعي، الذي يتطلع الى مزيد من النفوذ، على صعيد سياسات الطاقة عالمياً، لكي تؤول اليها الغلبة، على مستويات تحديد معدلات الاستخراج، وقرارات التسعير، ووجهة العوائد المالية، ومراكز الأوعية النقدية لهذه العوائد. بنغازي كانت سباقة الى التحرر، لكن هذا لا يكفي لأن بنغازي نفسها، كانت منطلق التمكين للانقلاب الذي ايدته الجماهير في الفاتح من ايلول (سبتمبر) 1969.
* * *
في واحدة من سقطات تصريحاته، قال عبد الجليل، إن الأولوية على الصعيد البترولي والإعماري، ستكون للأقطار ولشركات الأقطار التي 'وقفت مع ليبيا' في الصراع.كما أن التوجهات التي يمكن لواحدنا أن يستخلصها، من خلال أحاديث الرموز، التي عملت مع القذافي حتى الأيام الأخيرة قبل الانفجار الشعبي، غير مريحة. لقد عاب العيّابون على العرب الأبعدين، أن يؤيدوا ثورة شعب عربي، يساندها حلف الناتو عسكرياً خدمة لمصالح بلدانه. لكن وجود الأقربين من مساعدي القذافي السابقين، ومن خريجي مدرسته ومن صنائعه؛ وفر الدليل على موضوعية الموقف المساند لمسعى الشعب الليبي، الى التحرر من قيوده.
غير أن القذافيين السابقين، باتوا ـ للأسف ـ ينطقون بلسان أعجمي. فقد استمعنا أمس الى عبد الرحمن شلقم، وهو من داخل عصب النظام السابق في حديث مفتوح، الى قناة 'العربية' وكان لافتاً عدم توخيه الدقة، في الإشارة الى أدوار شائنة، لعناصر عربية وفلسطينية، في ممارسات القذافي ومخابراته. بل إنه أعطى إشارة أطلسية عندما ذكر اسم الشهيد صدام حسين. وبدا راغباً في تملق الأوساط الرسمية العربية، ذات العلاقات الحميمة مع الأمريكيين.
لا نميل الى التشاؤم، لكننا نشتبه في الدوافع، التي جعلت العناصر التي ألقت القبض على معمر القذافي، تبادر الى إعدامه ببشاعة، ودون محاكمة. ربما أرادوا دفن الأسرار التي تدين كثيرين، وربما أخذ الغرب علماً، بحقيقة مئة وثلاثين طناً من الذهب، كانت مخبئة، وتوصل الطامعون الأغراب، الى سرها وأسرار مليارات من الدولارات غيرها، قبل اليوم الذي جرى فيه قتل القذافي. وبالتأكيد، كان هناك كنز معلومات سيكشف عنه القذافي لو ظل حياً وتعرض للاستجواب ولمحاكمة علنية. ويقيني إن كثيراً من هذا الكنز، سيُحرج الغرب المستغل والانتهازي، لذا كان القتل بأيدي هائجين!
أخيراً، أسمح لنفسي، دونما ادعاء، الإشارة الى أن هذه السطور سيقرؤها ليبيون متنفذون، بحكم كونها تؤخذ وتنشر في بعض المواقع الليبية على شبكة الانترنت. والغاية من هذه السطور، هي التحذير من الانجرار وراء غوايات ودسائس القسمة والتقسيم. لا بد من الحفاظ على الروح القومية في ليبيا. حذار من التغاضي عن عناصر وضرورات الوفاء للقضايا العربية. إن لعبة التظاهر بالأسلمة، التي يستمرؤها عبد الجليل، في خطابه اليومي، تثير الكثير من الأسئلة. فالمنحى الإسلامي، محبب وحميد، إن كانت غايته التأكيد على ثوابت الأمة وعلى روحها وعلى نثصرة قضاياها، أو إن كانت غايته استرضاء المجموعات الأصولية، التي شاركت في الثورة، وأخذها الى المشاركة في تعزيز هيبة الدولة على أسس دستورية. أما إن كانت غطاء للمنحى التقسيمي، ولنكران العروبة، وللتغطية على الامتثال للغرب، على المستوى الاستراتيجي؛ فإن الجواب هو أن عبد الجليل لا يقرر. لقد هب الليبيون الى الثورة، لكي يكتبوا بدمهم فصل الختام لعهد الاستبداد، ولكي يظفروا بالديموقراطية!
www.adlisadek.netadlishaban@hotmail.com