المرشد وباترسون
بينما كان شباب الثورة مستغرقين فى نضالاتهم ضد الاستبداد، كان شيئًا
يُعد فى الخفاء فى أروقة الإدارة الأمريكية ومختبراتها البحثية لإجهاض الثورة
المصرية وتنصيب الإخوان حكامًا على مصر، يضمنون المصالح الأمريكية فى المنطقة،
ويحمون أمن إسرائيل. فى هذه الحلقات نكشف كيف حسم الأمريكيون منذ البداية قرار دعم
الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة فى الأيام الأولى للثورة المصرية، وكيف وفرت
مختبرات الأبحاث الأمريكية العاملة لدى وكالة الاستخبارات المركزية «CIA» الصيغة
المناسبة للإخوان لتأسيس حزبهم، بما يتيح لهم التخلص من وعود تطبيق الشريعة،
والتخلى عن معاداة إسرائيل، فى هذه الحلقات نفضح حقيقة الاتصالات الأمريكية مع
جماعة الإخوان المسلمين، والضغوط الأمريكية التى مارسها البنتاجون والإدارة
الأمريكية على المجلس العسكرى دعمًا للجماعة، وحقيقة تستر الإدارة الأمريكية على
تفاصيل هروب مرسى من السجن، وأسرار استدعاء باترسون للسيطرة على مقاليد الأمور فى
مصر، ودورها فى حماية نظام مرسى من الاحتجاجات التى اندلعت بعد إصداره الإعلان
الدستورى المكمل.
الإخوان وعدوا «العسكرى» بوقف الاحتجاجات مقابل تأسيس «الحرية
والعدالة»
نموذج «العدالة والتنمية» التركى كان النصيحة الأمريكية للإخوان كمخرج
لعدم تطبيق الشريعة والفوز المتتالى فى الانتخابات
«بخارى» عزز التقرير السابق الذى أرسل فى الحادية عشرة والنصف من مساء
يوم 3 فبراير بتقرير جديد أرسل فى الساعات الأولى من صباح يوم الرابع من فبراير
2011، تحديدا فى الساعة الثالثة والنصف صباحا، ويبدوا أنه بحث عن المزيد من تصريحات
العريان التى لم تكن مطمئنة مثل تصريحات مرسى، وأشار بخارى فى تقريره إلى تغطية
نشرتها القناة العاشرة الإسرائيلية حول تصريحات جديدة للعريان قال فيها «إنه فى
حالة سقوط مبارك قد نجرى استفتاءً على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. وإن
كانت جماعة الإخوان المسلمين جماعة غير عنيفة فإن السلام سلام بارد جدا بين
المصريين والإسرائيليين يحتاج إلى مراجعة» وقد أشار العريان هنا فى الوقت ذاته إلى
أن جماعته لا تسعى للحرب مع إسرائيل، لكن الواجب ألا تكون مصر «حارسًا لإسرائيل»
تحميها من الفلسطينيين.. وهنا أشار بخارى «المرسل» إلى مخاوفه قائلا «الاحتجاجات
التى اندلعت منذ أيام تأتى بنظام مبارك إلى حافة السقوط، والمخاوف من أن الجماعة
الأكثر تنظيما فى مصر قد تحصل على نصيب من السلطة، وبالتالى الحذر حول طبيعة
العلاقات المصرية - الإسرائيلية صار أكثر حدة، وحتى الآن لا يبدو واضحا لأى درجة
قد تحوز جماعة الإخوان المسلمين نصيبا فى مستقبل الحكومة
المصرية».
يبدو أن الرجل قد صاغ تقريره الذى بدا كئيبا للمتلقى بعض الشىء، لذا
فقد حاول بث بعض الطمأنينة منوها إلى إجراءات علمية قائلا «حتى هذه اللحظة، من
المهم دراسة إمكانية هذا التحول فى السلوك المصرى، فالخطوة الأولى تقتضى أن تحوز
الجماعة نصيبا كبيرا فى الحكومة حتى تتمكن من دفع أجندتها الخارجية والداخلية»
مضيفا فى جزء آخر «وحتى إن حدث هذا وحازت الجماعة كتلة كبيرة، سيظل عليها أن تعمل
مع الجيش، وعناصر أخرى من المؤسسة، بالإضافة إلى قوى سياسية أخرى، وهى عوامل يمكن
أن تعيق حركتها، الإخوان المسلمون يعلمون جيدا أن أى محاولة للتغيير الجوهرى فى
السياسة الخارجية قد تستدعى على أقل تقدير عقوبات دولية» وتصريحات محمد مرسى كانت
تؤكد هذا حينما قال «الإخوان المسلمون لا يعيشون فى مدية
الأحلام».
مستقبل التقرير أرسله إلى شخص آخر فور استقباله يدعى «سين نونان»،
الذى لم تمر سوى فترة قصيرة لم تتجاوز النصف ساعة حتى أجاب عن نفس الرسالة متسائلا
بحدة «إذن المصريون من الممكن أن يصوتوا فى استفتاء على المعاهدة، وتذهب إلى سلة
المهملات، ونذهب للحرب» سائلا المرسل «هل لذلك سابقة
تاريخية؟».
وبعد مداولات كثيرة بين معنيين فى نفس «المختبر» جرت عقب التقريرين،
أعيد إرسال التقارير السابقة إلى أشخاص عدة بنفس المختبر جرت بينهم المداولة، وطلب
فى أثناء تلك المداولات التحقق من تصريحات العريان تحديدا، ومدى صحتها، وأسئلة على
شاكلة أين قيل بشكل مؤكد ومتى وفى أى سياق؟، انتهت المداولات بإشارة إلى أن القناة
الإسرائيلية ولكونها إسرائيلية ربما تبالغ أو انتزعت التصريح من سياقه
ربما.
فى ظهر يوم الرابع من فبراير 2011، كان التقرير المجمع لتصريحات
قيادات الإخوان المسلمين عن معاهدة السلام قد عمم، وأرسل إلى جميع الباحثين
العاملين فى المختبر وطلب منهم تعليقاتهم حوله، وقد ذيل التقرير بعبارة كتبت بخط
واضح «ليس للنشر».
قبل رسالة بخارى التى عممت وأرسلت للباحثين داخل المختبر، كان هناك
أمر آخر يتم مناقشته، وقد تجاوز العاملون الساعات الأولى لصباح اليوم التالى،
فداخل المختبر فى الولايات المتحدة الأمريكية أرسل بريد إلكترونى فى الساعة
الثانية من صباح يوم الرابع من فبراير يحمل تقييما مفصلا مستعينا بتقرير لوكالة
«الأسوشيتد برس» التى كان مراسلوها الأكثر عددًا فى التحرير مقارنة بأى وكالة
أنباء أخرى، وآخر لصحيفة «واشنطن بوست» حول ما عنونه مرسل البريد بالـ«إشارة حول
تنامى دور الإخوان المسلمين فى اعتصام ميدان التحرير التقرير أشار إلى ازدياد
أعداد الإخوان المسلمين فى الميدان بشكل ملحوظ فى الأيام التالية، وقد أبدى
التقرير ملاحظات ذكية من قبل المراسلين الأجانب فى القدرة على تمييز مجموعات
الإخوان من خلال طريقة ملبسهم وحديثهم وأسلوب اشتباكهم فى الميدان فى موقعة الجمل،
وأشار التقرير إلى أنه ما زالت الأغلبية لمجموعات الشباب من العلمانيين
واليساريين».
ينبغى التأكيد هنا أن الرسائل التى نتحدث عنها والخاصة بأحد مختبرات
التفكير وصنع القرارات البارزة لدى الإدارة الأمريكية، والمزود لمعلومات هامة لدى
أجهزة مخبراتها ليس هو المختبر الوحيد المتحكم فى صنع السياسات الأمريكية قصيرة
وطويلة المدى، بل هو واحد من عدد من المختبرات التى يتوزع إنتاجها فى ساحات مختلفة
للعمل ما بين السياسة الخارجية والسياسات الاقتصادية والاستراتيجيات العسكرية وإلى
آخره. حيث يكون موضوعا بين جهاز الاستخبارات الأمريكية وصناع القرار من الأمريكان
خيارات ومقترحات دقيقة ومفصلة تقدم بشكل دورى، وتتسارع وتيرة تقديمها فى الحالات
الطارئة مثل تلك التى نتحدث عنها، حيث تقدم الحلول المتعددة أو فى بعض الأوقات حلا
واحدا يتم اتخاذ القرارات وفقا وبناء عليها.
الأمريكان يؤسسون حزب الحرية والعدالة:
وفى الساعة الخامسة وسبع دقائق من صباح 4 فبراير 2011 كان شخص آخر
داخل المختبر يدعى إيمرى درجو قد أرسل بريدا قال فيه بفخر
الآتى:
«حسنا، أنا لدى استراتيجية لأفراد جماعة الإخوان المسلمين، كى يدشنوا
اتزانا استراتيجيا بين مطالبهم الانتخابية والسياسة الواقعية. فكما تعلم أن حزب
العدالة والتنمية التركى يحكم تركيا منذ عام 2002، لديه قاعدة شعبية واسعة التى
يجب أن يلبى احتياجاتها، مثل غطاء الرأس، رفض الكحول، المزيد من التعليم الدينى،
المزيد من الثراء للطبقات النخبوية المحافظة.. إلى آخره. القضية هنا هى أن
(العدالة والتنمية) لا يريد لهذه القضايا أن تستقر، لأن فى واقع الأمر الناس
يعطونا أصواتهم للعدالة والتنمية كى يحل تلك المشكلات»
بمعنى آخر وكما ورد فى الاقتراح «إذا لم تكن هناك مشكلة الحجاب على
سبيل المثال، جزء من أصوات المصوتين للعدالة والتنمية سيضيع.. وبالطبع فإن حزب
العدالة والتنمية لا يمكن أن يقول إنه يريد هذه المشكلات أن تبقى لأنه يستفيد
منها، إذن ما هى الاستراتيجية المثلى؟.. إنها بسيطة، قم بإلقاء اللوم على
الآخرين».
وأكمل: «العدالة والتنمية» التركى الآن حزب شديد القوة، وهو قادر على
أن يحل مشكلة الحجاب فى يوم واحد، لكنه يقول إنه لا يستطيع لأن الآخرين لا يريدون
السماح لى بفعل هذا، إذن ما العمل؟.. أن تذهب وتصوت لى، وبذلك سأصير أقوى، وسأحاول
مجددا فى الانتخابات التالية، وسأصور نفسى بمنطق المستضعف فى كل مرة. ما أقوله هو
أن الإخوان المسلمين يمكنهم ببساطة تبنى نفس الاستراتيجية. الآن افترض مثلا أن
الإخوان المسلمين وما بعد مبارك قد حازوا عددًا كبيرًا من المقاعد فى البرلمان، لن
يقوموا يتغيير معاهدة السلام، لأنه ستكون هناك قوى أخرى محورية، الجيش بشكل أساسى.
وإذا كنت أنا من قيادات الإخوان المسلمين، سوف أرى ذلك رصيدا جيدا جدا، سوف ألوم
دائما هؤلاء الذين يحمون معاهدة السلام، وسوف أشكو دائما أننى لا أملك القوة كى
أغير الموقف، وبذلك سوف يصوت المصريون لى كى أعدل الوضع.. وفى النهاية لن أحرك حتى
إصبعا واحدا كما يفعل «العدالة والتنمية» التركى، لأن ببساطة هذا ما أعيش
عليه.
«كن حرا فى إرسال هذه الرسالة إذا كان لديك أصدقاء فى الجماعة، وهم
سوف يصلون من أجلى بقية حياتهم».
انتهت الرسالة«.
مرت أيام على تنحى مبارك، وما زال المحللون الأمريكيون يتابعون عن كثب
الجماعة، ولفت انتباههم إعلان الجماعة الرسمى فى الرابع عشر من فبراير عن عزمها
تأسيس حزب سياسى، وكان هذا الإعلان كاشفا ربما عما تعهد به الإخوان المسلمون لدى
المجلس العسكرى الذى تولى إدارة شؤون البلاد قبل أربعة أيام، فالإخوان المسلمون
قطعوا وعدا بأن يوقفوا الاحتجاجات التى يقودها شباب الثورة، إنه المقابل للسماح
لهم بتأسيس حزب سياسى.
وهذا ما يمكن إدراكه من خلال رسالة أخرى أرسلت إلى كل العاملين فى
المختبر فى الساعة الثامنة من مساء يوم 15 فبراير 2011، وهى رسالة توضح حتى هذه
اللحظة حذر المجلس العسكرى من التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين ونيات المجلس
العسكرى نحوهم، وقد علق المرسل على قرار الإخوان بتأسيس حزب سياسى
بالآتى:
«بالرغم من أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى يدير شؤون البلاد فى
مصر أبدى نيات جيدة نحو الإخوان المسلمين، فإنه ليس ضروريا أن يسمح لهم بتأسيس حزب
سياسى متصل بقيادة الجماعة، فالمجلس العسكرى ربما يرفض التصريح، أو ربما فى الأغلب
سوف يأخذ وقتا كبيرا للبت فى الأمر». ويضيف المرسل «إذا كان الإخوان المسلمون
لديهم الرغبة لدخول التيار السياسى الرئيسى فى البلد فإنهم يحتاجون بالفعل إلى حزب
سياسى، والجماعة ترى أن تلك هى اللحظة والفرصة الأنسب فى التاريخ المصرى لفعل
هذا»، مؤكدا «لقد تحدثوا مع العسكر ووعدوهم بأن يوقفوا الاحتجاجات، وأن ليس لديهم
رغبة فى السلطة ولن يقدموا مرشحا رئاسيا».
«إن حصول الإخوان المسلمين على موافقة المجلس سوف تعتمد على التفهمات
بين الطرفين، واتفاق سيأخذ وقتا طويلا من المفاوضات».
وقد انتهت الرسالة التى احتوت آراء تحليلية أخرى بخصوص خلاف داخل
الجماعة حول الشكل الذى سيكون عليه هذا الحزب إلى التأكيد أيضا بأن هذا التقرير
ليس للنشر كسابقه.
المتابع للرسائل السابقة يدرك أن الأمر لدى الأمريكان لم يكن يحتاج
إلى فترة طويلة لحسم مواقفهم واتجاههم، فالطابع الغالب على تلك الرسائل هو إدراك
مبدئى لوزن جماعة الإخوان المسلمين فى الشارع المصرى، ومقترحات غاية فى الوضوح حول
طريقة التعامل الأمريكى معها، وربما السعى لاتخاذ قرار بدعم الجماعة والسماح لها
بالوصول إلى السلطة، بل الأمر تطور إلى اقتراح الطريقة التى ستنخرط بها الجماعة فى
العمل السياسى فى مصر بشكل حزبى محدد سلفا، ومرسوم بوضوح فى الأيام الأولى للثورة
المصرية، لكن هذا طبعا بعد حسم أمور بعينها، فما كان يشغل بال الأمريكان وقبل تنحى
مبارك يأيام صيغة الاتفاق الذى سيتوصلون إليه مع الإخوان، فإلحاحات نتنياهو لم
تتوقف ولن توقف قبل الوصول إلى ضمانات تقدم إليه.
عمرو صلاح يكتب: باترسون تتولى مهمة حكم مصر
مدير «الإف بى آى» فضح الدعم الأمريكى المبكِّر للجماعة حينما وصفها
بـ«العلمانية» فتدخل أوباما على الفور لمعالجة الموقف
بينما كان شباب الثورة مستغرقين فى نضالاتهم ضد الاستبداد، كان شىء
يُعد فى الخفاء فى أروقة الإدارة الأمريكية ومختبراتها البحثية لإجهاض الثورة
المصرية وتنصيب الإخوان حكامًا على مصر، يضمنوا المصالح الأمريكية فى المنطقة،
ويحموا أمن إسرائيل. فى هذه الحلقات نكشف كيف حسم الأمريكيون منذ البداية قرار دعم
الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة فى الأيام الأولى للثورة المصرية، وكيف وفرت
مختبرات الأبحاث الأمريكية العاملة لدى وكالة الاستخبارات المركزية «CIA» الصيغة
المناسبة للإخوان لتأسيس حزبهم، بما يتيح لهم التخلص من وعود تطبيق الشريعة،
والتخلى عن معاداة إسرائيل، فى هذه الحلقات نفضح حقيقة الاتصالات الأمريكية مع
جماعة الإخوان المسلمين، والضغوط الأمريكية التى مارسها البنتاجون والإدارة
الأمريكية على المجلس العسكرى دعمًا للجماعة، وحقيقة تستر الإدارة الأمريكية على
تفاصيل هروب مرسى من السجن، وأسرار استدعاء باترسون للسيطرة على مقاليد الأمور فى
مصر، ودورها فى حماية نظام مرسى من الاحتجاجات التى اندلعت بعد إصداره الإعلان
الدستورى المكمل.
وهنا، وكما برز فى الرسائل السابقة، العرض الذى سيقدم لجماعة الإخوان
المسلمين يشتمل على نقاط أساسية:
1- تحفيز الجماعة ومكافأتها كى تكون أكثر براجماتية فى علاقتها
بإسرائيل (وفقًا لنص الرسائل)، والسعى لإنهاء هذا الخطاب العدائى بحقها الذى كان
نموذجًا له عصام العريان، راقب أنه لم يمر سوى شهور حتى كان إقصاء عصام العريان
داخل جماعته مقارنة بتاريخه الذى يعد أطول من تاريخ مرسى. فحتى بعد وصول جماعة
الإخوان المسلمين إلى السلطة لم يحظَ العريان فى جهاز الدولة بموقع يحمل تقديرا
لتاريخه وسيرته داخل الجماعة، بل مُنِىَ الرجل بهزيمة ربما قُصِدَ منها أن تكون
مُذِلَّة له داخل الحزب، وهذا على عكس ما حدث مع مرسى الذى كان العريان يوما ما
مسؤوله داخل الجماعة، لكن تصريحات مرسى ربما بدت أكثر قبولا لدى
الأمريكيين.
2- السعى لأن تمارس الجماعة العمل السياسى من خلال إطار حزبى يحدده
الأمريكيون، فتتبنى الجماعة صيغة حزب العدالة والتنمية التركى، وهو الاقتراح
الأمريكى الذى صيغ فى يوم الرابع من فبراير، فالجماعة مطلوب منها أن تكون داعية
لتطبيق الشريعة ولكن عليها أن لا تفعل، وتتذرع بمعوقات يضعها آخرون فى طريقها حتى
تكسب تعاطفا جماهيريا فتفوز بالانتخابات، وهكذا تتكر اللعبة مرارا وتكرارا، وكذلك
موقفها من معاهدة السلام مع إسرائيل، فالمطلوب أن تبقى العلاقات مع إسرائيل كما هى
لا تتغير، ويممكن للجماعة أن تبرر موقفها المختلف عما قبل الثورة بالعوائق والدور
الذى تلعبه مؤسسات الدولة وقوى سيسية أخرى فى مواجهتها، وإن بدا فى خطاباتها بعض
الحدة.
وينبغى هنا الإشارة إلى حجم التقارب الإعلامى الذى سعى إلى تسويقه
لإخوان المسلمين منذ تأسيس حزبهم مع حزب العدالة والتنمية التركى، وتكليف الجماعة
شبابَها بالخروج لاستقبال أردوغان فى المطار تحت شعارات ترحيب واحتفاء، وهى علاقات
تطورت إلى حد الدعم المالى من الأتراك لنظام مرسى بمبالغ مالية ضخمة لتجاوز
محنته.
ووفقا لهذا فإن سيناريو سابقًا طرحه محللون قبل سنوات حول طريقة تعامل
الأمريكيين مع الأصوليين فى الشرق الأوسط يبدو أنه قد بدأ اعتماده بعد أيام من
اشتعال الثورة المصرية، وقد أصبح هذا السيناريو خارج الأدراج بعد أن وضعه
الجمهوريين فى عهد بوش داخلها، وهكذا ظل فترة طويلة جعلته ليس محلًّا للنظر، وهو
سيناريو قائم على استيعاب التيارت الإسلامية التى تُبدِى قدرا كبيرا من
البراجماتية فى العملية السياسية، بل ربما تحفزيها للوصول إلى السلطة بعد اتفاقات
حول القضايا الاستراتيجة محل الاهتمام الأمريكى التى فى قلبها قضية إسرائيل
والموقف من إيران، وهو سيناريو ظل مستبعَدًا تنفيذه لدى الأمريكيين، إلا أن الثورة
التى قامت واستمرار الرهان عى مبارك الذى أثبت فشله يقتضى البدء فى تطبيق
السيناريو الآخر الجديد، الذى لم يتم اللجوء إليه بشكل كامل إلا بعد التأكد من حسم
المعركة بسقوط مبارك نهائيًّا.
ولعل ما كان كاشفا عن تلك النية تصريحات مدير «إف بى آى» التى صدرت
قبل تنحى مبارك بيوم وكشفت عن نية الأمريكيين الفعلية لدعم الإخوان المسلمين
وتناقلتها الصحف الأمريكية، إذ وصف جماعة الإخوان المسلمين فى مصر بأنها جماعة
علمانية، وهو كان تصريح فى حاجة إلى تدخل مباشر من أوباما لتعديله، فإعلان سقوط
مبارك والاطمئنان إلى الوضع بعده هو أمر لم تكتمل كل التقديرات حوله، وهنا كان
تصحيح التصريح الذى أطلقه مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية جيمس كليبر بهدف
الترقب، وعدم كشف الأمريكان عن نيتهم بحق جماعة الإخوان المسلمين دفعة واحدة أمام
الرأى العامّ الأمريكى والمصرى والدولى.
هنا تنبغى الإشارة إلى أن التحرك الأمريكى للتواصل مع جماعة الإخوان
لم يحدث كما أعلن لاحقا بعد تأسيس حزب الحرية والعدالة، فالإخوان المسلمون كانوا
قادرين منذ اللحظة الأولى التى أدركوا فيها اللحظة التاريخية الفارقة أن انفتاحهم
على لقاء الجميع من أجل الحصول على أكبر قدر من المكاسب ضرورى وهامّ، وعلى هذا
الأساس كان وجودهم على طاولة المفاوضات مع عمر سليمان فى 6 فبراير حتى لو احتج
الميدان على هذا العفل، وكان إسراعهم إلى لقاء المجلس العسكرى ووعودهم له بوقف
الاحتجاجات كما أشارت الرسائل، ومن ثَم فإن اللقاء مع الأمريكيين أمر ضرورى وحتمى
بالنسبة إليهم، حتى إن كانت هذه اللقاءات يجب أن تتم فى إطار الضرورات فقط أو على
نطاق محدد كما قالت هيلارى كلينتون. وهنا يمكن الاستشهاد بوثيقة هامة هى نص محادثة
أُجرِيَت بين كلينتون ورئيس وزراء إحدى الدول الأوروبية فى 30 يونيو 2011، حينما
سأل رئيس الوزراء الهنجارى السيدة كلينتون عن اتصالها بجماعة الإخوان المسلمين
فأكدت له أن إدراة أوباما لا تزال توصل نهجها فى الاتصال المحدود بجماعة الإخوان
المسلمين منذ ست سنوات.
فى بدايات الأسبوع الثالث من مارس انتهى الاتفاق مع المجلس العسكرى،
وبدا للأمريكيين الذين لعبوا دورا فى تحفير وإقرار هذا الواقع الجديد أن الأمر قد
حُسم، فإعلان الإخوان المسلمين تقدمهم للجنة شؤون الأحزاب بأوراق تأسيسهم حزبًا
سياسيًّا يعنى قبولا لجميع الأطراف المعنية سواء العسكر أو الأمريكان بهذا الواقع
الجديد، فعلى الرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين لم تقدم أى تنازل أيديولوجى حول
رؤيتها لدينية الدولة أو دينية حزبها، فإن العسكر هنا لم يُبدوا أى اعتراض، حتى إن
لجنة شؤون الأحزاب التى كان من المفترض أن تلتزم بنص قانونى يحظر تأسيس حزب على
أساس دينى لم تُبدِ أى اعتراض، كأن القانون غير موجود. أما السيناريو الأمريكى حول
موقف الإخوان المسلمين من قضية الشريعة فهناك سيناريو حزب العدالة والتنمية التركى
الذى يبدو مقبولا من الجميع، ويتيح للأمريكيين الإشراف، على أن لا يخرج هذا الحزب
الجديد عن نطاق المهمة المفروضة والمحددة. ولعل تلك الأيام كانت الأخطر فى تاريخ
مصر، فلقد بدأت بالفعل أولى خطوات تأسيس نظام سياسى يفتقر إلى الأسس الديمقراطى
الحديث المتعارف عليها فى دول العالم الحديث.. وبعيدًا عن التحليل فإن الواقع
الجديد الذى تفهم الأطراف الثلاثة حوله صار قائمًا، وهذا الواقع كان يحتاج إلى
سياسة جديدة من الراعى الأمريكى لضبط قواعد اللعبة التى يجب أن لا يخرج الإخوان
عنها، أو يحيدوا فيها عن التزامهم بحماية المصالح الأمريكية، وضمان أمن وسلامة
إسرائيل وعدم اختراق معاهدة السلام، وهنا جرت النقاشات داخل أروقة الإدارة
الأمريكية حول الشخص الأنسب الذى ربما سيلعب دور لحاكم الفعلى لمصر فى الفترة
اللاحقة، وهنا وقع الاختيار على آن باترسون. ولكن لماذا آن باتيرسون
تحديدا؟
السير لامسون فى ثوبه الجديد:
لا يعنينا فى السجل الوظيفى والمهنى لتلك الدبلوماسية ربما سوى
السنوات التى قضتها فى باكستان، فى الفترة من يوليو 2007 إلى أكتوبر 2010، وهى
فترة أدَّت فيها باترسون فى باكستان خدمات جليلة لبلادها، والعكس بالنسبة إلى
باكستان، حتى إن بعض الصحف أُطلِقَ عليه لقب «مروضة الحركات الإسلامية»، فالسفيرة
الأمريكية فى باكستان ولمدة ثلاث سنوات نجحت فى أن يكون لها اليد العليا فى أمور
كثيرة كانت تجرى داخل باكستان وتحدد مسار سياستها، وكانت علاقتها بأطراف عديدة من
قادة الجيش والرئيس الباكستانى وقيادات إسلامية واسعة ومتشعبة، وخلال تلك السنوات
التى سبقت وصول القوات الخاصة الأمريكية إلى مقر بن لادن والقضاء عليه.. ربما تلك
هى المصالح الأمريكية فى الحفاظ على الجيش الباكستانى وقياداته عملاء للمخابرات
الأمريكية، وأن تظل البلاد مخترَقة من قِبَل الجيش الأمريكى الذى يتحرك على
أراضيها بكل سهولة ويسر أو أن ينفذ طلعاته الجوية بسهولة ويسر، أو أن تكون السفيرة
باترسون مقصدًا لكل من يفكر فى أن يقود انقلابا، أو قادة وكالة الاستخبارات
المركزية الذين يطالبونها بمعلومات زودتهم بها بشكل دائم.
ما تقوله وثائق «ويكيليكس» المسربة عن باترسون هو أمر فى حد ذاته غاية
فى الأهمية لكونه يوضح لك كمّ السيطرة التى مارستها تلك المرأة داخل باكستان خلال
سنوات وجودها على النحو التالى:
1- وحدات صغيرة من القوات الخاصة الأمريكية كانت تقوم بعمليات فى داخل
المناطق الباكستانية بموافقة الحكومة الباكستانية نفسها، فمثلا فى عام 2009 وفرت
القوات الباكستانية الحرية لجنود عميات خاصة أمريكيين التحرك وسط مجموعاتهم وفرقهم
العسكرية فى جنوب وشمال وزيرستان، وعلى الرغم من أنه لم يكن متاحا لهم تنفيذ
عمليات أرضية بعينها، فإنهم كانوا يقومون بجمع معلومات استخباراتية توفر دعما
لطائرات أمريكية لكى تقوم بمهامّ قصف، فى الوقت الذى كانت فيه السلطات الباكستانية
تنفى تماما وجود مجندين أمريكيين على أراضيها.
2- محاولة انقلاب جرت فى بدايات عام 2009، حنيما ذهب الجنرال أشفيق
برفيز كيانى قائد الجيش الباكستانى ليناقش مع الأمريكيين إمكانية الضغط لإجبار
الرئيس الباكستانى زردارى على التنحى واستبدال قادة أحد الأحزب الباكستانية به.
أما الرئيس الباكستانى الذى شعر فى بعض الأوقات أن محاولة اغتيال تُرَتَّب له فقد
ذهب أيضا إلى باترسون يشكو إليها وأخبره أنه فى حالة اغتياله، فإن أخته يجب أن
تُختار رئيسا للبلاد! مؤكدا له أنه جهز فى حالة اغتياله لسيناريو نقل أسرته إلى
الإمارات العربية لإيوائهم وحمايتهم.
3- الإدارة الأمريكية من خلال باترسون كانت تعرف أن الوحدات
الباكستانية للجيش ارتكبت جرائم قتل كثيرة، إلا أنها لم تصرح بهذا أو تقُم
بإعلانه.
بهذا كانت باكستان تابعا خاضعًا للولايات المتحدة فى عهد باترسون، حتى
إن الأمر وصل ووفقا لوثائق «ويكيليكس» إلى أن جيلانى (رئيس الوزراء البكستانى) قال
إنه لا يهتم إذا قام الأمريكيون بعمليات جوية على أراضى بلاده، ما دامت هذه
العمليات تستهدف أشخاصًا بعينهم، مؤكدا «فقط سنحتجّ لدى الجمعية العامة وسنتجاهل
هذا لاحقا».
الوثائق تقول أيضا إن جهاز الخدمة السرى الباكستانى كان يرى أن تلك
العمليات التى تعتمد على القصف الجوى، هى حل منطقى لوجود عناصر طالبان على أراضيه،
وقد اقتبس موقع «ويكيليكس» ما قاله مسؤول مصدر رسمى باكستانى: «السكان المحليون لا
يخشون القصف لأنهم يعلمون أن تلك العمليات تستهدف بيوت ومواقع الأشخاص غير
الصالحيين».
يُذكَر أنه فى عام 2008 حاز الجيش الأمريكى معلومات من السفارة
الأمريكية فى باكستان حول المخيمات التى تُؤوِى اللاجئين الأفغان ومدنيين نازحين
بسبب القتال مع طالبان، حيث طلب من باترسون أسماء وعناوين وحالات وأعداد النازحين
دون أن يعرف أسباب نقل هذا المعلومات.. ويمكن القول بشكل عام إن الفترة التى تولت
خلالها باترسون منصب سفير الولايات المتحدة كانت إحدى أنشط فترات التعاون
الاستخباراتى بين البلدين.
وهكذا، ووفقا لوثائق «ويكيليكس» المسربة عن رسائل متداولة بين سفارة
باترسون والإدارة الأمريكية، أمكن الكشف عن كل هذه الاختراقات التى صنعتها باترسون
فى باكستان ومدى سيطرتها على مقاليد الأمور بها، وجعل القادة الفاعلين
الباكستانيين فى المعادلة طائعين وخاضعين لها، وفى المقابل تذكر الوثائق نفسها أن
كثيرًا من المساعدات الأمريكية أُغدِقَت على باكستان (مئات الملايين من
الدولارات).
وهكذا، وبعد عقود مضت على مصر، تحررت خلالها من الاحتلال الإنجليزى
والتدخل السافر للبريطانيين فى شؤونها من قبل السير لامسون المعتمد البريطانى فى
مصر إبان حكم فاروق، بداية من اختيار الوزراء ومسؤولى البلاط الملكى وانتهاءً
بإعطاء أوامر مباشرة للملك بتكليف حزب بعينه لتشكيل الحكومة أو الإطاحة به، صار
للولايات المتحدة الأمريكية فى مصر معتمد جديد يؤدى نفس الدور، كأن التاريخ يعيد
نفسه، وكأن مصر أصبحت جزءًا مُعلَنًا من الإمبراطورية الأمريكية يتمتع فقط
باستقلال صورى.