الرئيسية / الآراء والمقالات / نادرة هاشم حامدة يكتب : الدعوة الفردية في ميزان النت

نادرة هاشم حامدة يكتب : الدعوة الفردية في ميزان النت

نادرة هاشم حامدة

الدعوة الفردية في ميزان النت :
بقلم : أ. نادرة هاشم حامدة
إن ثورة السوشيال ميديا في وقتنا الحاضر، وهذا الاكتساح غير الطبيعي لأدواتها المتعددة من الفيس بوك والواتس آب والإنستجرام واليوتيوب وغيرها من وسائل التواصل الالكتروني عبر النت، هو من أسباب الهيمنة والسيطرة على فكر وثقافة المجتمع ،وفي الوقت الذي يشهد فيه المجتمع تراجع كبير للأسف في دور الدعوة الفردية المجتمعية، هذا الدور الذي فقدناه بمعناها الحقيقي في شكل داع ومدعو يقوم على الاحتكاك المباشر بغرض التأثير فيه وفق منهج الله وسنة نبيه، نجد أنه قد غرر النشر السريع والمريح في وسائل السوشيال ميديا بالمسلمين وخاصة الدعاة منهم إلا من رحم ربي حتى ظنوا أن ضغطة زر قد أسقط عنهم واجب الدعوة إلى الله والتي هي واجب على كل واحد منا كل على قدر سعته واستطاعته، بعد أن تلبسنا مفهوم خاطئ حول وجوب الدعوة إلى الله حتى أن الغالبية العظمى من المسلمين تظن أن هذا الوجوب منوط بأهل العلم والمشايخ فقط، كما أن هناك من الذين يعون وجوبها يتبنون مبدأ الأنانية ومفهوم ( وأنا مالي) تاركا أجرها، فيجعل معرفته بالله وهدايته إليه مقتصرا على نفسه فقط فلا يدل بذلك على الله ولا يدعو إليه.
تعتبر الدعوة الفردية الوسيلة الاقوى في تغيير النفوس مهما كانت المنشورات على السوشيال ميديا قوية ومدوية فإن هذا لا يغني عن المواجهة فيها والتأثير الوجاهي، فالذين يحاربون الدعوات عادة أيا كانت إنما يحاربون فيها الاحتكاك المباشر بين الداعين والمدعوين لأنهم يعون مدى قوة التأثير في ذلك على الأرض فيحاولون منعه.
كثيرة هي الواجبات التي أمر الله بها المسلمين، منها المشتركات التي نتفق عليها كالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولكن يفوت الأكثر منا أن هناك واجب آخر من واجبات الدين لم نرعه حق رعايته، وقد نكون ضيعناه وهو واجب الدعوة إلى الله، حيث يقول الله تعالى : (قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ ‌عَلَىٰ ‌بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ) [يوسف: 108] فالدعوة إلى الله هي السبيل التي مضى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي مضى فيه صحابته الكرام رضوان الله عليهم، ومضى فيه من بعدهم السلف الأخيار دعاة هداة بإذن ربهم لا يقيلون عنها ولا يستقيلون، ونحن بإذن الله سائرون في نفس الدرب على آثارهم لا نغير ولا نبدل نتبع في هذا هدى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وسنظل ندعو إلى الله وندل عليه لا يمنعنا من ذلك زمان ولا مكان، سندعو إليه تحت أي ظرف، وستظل دعوته قائمة فينا ما دامت قائمة فينا الأنفاس.
لقد استخدم الدعاة إلى الله الدعوة الإلكترونية بدلا عن الدعوة الفردية الوجاهية مستكفيين بها دعوة تسد الوجوب، وكأن لها ثقل يرجى في ميزان التأثير والتأثر والأثر، وحلت الرسائل الدعوية التي ينشرونها تحت شعار الأجر بكبسة زر عبر الشاشات المضيئة محل الاتصال والتواصل الوجاهي بين الأفراد، وقد ألقوا على عاتق الحروف والكلمات المجردة عملية الإقناع الكامل والتأثير المطلق على المدعو من غير متابعة لحاله حتى يتحقق الهدف فيه، وبهذا نكون قد فقدنا العملية الحيوية للدعوة الفردية وفقدنا أثرها على الأفراد والمجتمع، هذه الدعوة التي حملناها نحن الأمة المحمدية أمانة من الله بعد ما انقطع خبر السماء بانتهاء الرسالات التي كان الإسلام خاتمها، ولكن الدعوة بذاتها لم تنته ولن تنته إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وقد انتقلت الوظيفة الموكلة بالأنبياء في الدعوة إلى الله إلينا بعد أن قبض الرسول صلى الله عليه وسلم، لنستلم نحن أمته المهمة و ندعو إلى الله كلٌ على قدر سعته ومتسعه، ولكل أجر مقسوم من الله على قدر مجهوده، فالقانون الإلهي في هذا الشأن واضح وصريح ومحسوب بالذرة (فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ ‌خَيۡرٗا ‌يَرَهُۥ) [الزلزلة: 7] بينما تغرنا اليوم وسائل السوشيال ميديا وأخص بالذكر الدعاة لتقتصر لديهم الدعوة ذات الجهد البسيط بالنشر بضغطة زر عن الدعوة في قضية حساسة كالدعوة الفردية وذلك في ظل ما يعانيه الإسلام من تغريب أبنائه متناسين أن الأجر يكون على قدر العمل. والسؤال المهم هنا هل هذه هي الدعوة التي أرادها الله سبحانه وتعالى منا و رضينا نحن أن نحمل أمانتها؟ هل هذه هي الدعوة التي جعلنا الله بها خير الأمم حيث قال : (كُنتُمۡ ‌خَيۡرَ ‌أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ) [آل عمران: 110]. أين تأثيركم أيها الدعاة بالاحتكاك المباشر مع المدعوين بقوة الترابط على الأرض .
لم يكن الواقع السياسي والعقدي القرشي في مكة ليسمح بالدعوة العامة الجماعية للإسلام، فحتّم هذا الظرف قيام الدعوة الفردية آنذاك، هذه الدعوة التي كان لها شرف وضع أساسات المدرسة المحمدية، حيث لم يكن الأمر سهلا أبدا حينها في ظل النظام الدكتاتوري العنصري في مكة الذي استمات أفراده في المحافظة على إرث الآباء والأجداد من الأصنام على غير هدى مضطهدين ومعذبين ومقصين لأتباع الدين الجديد، ورغم السرية المطلقة لهذه الدعوة في ظل الظروف الصعبة إلا أنها أينعت ثمارها بفضل الله أفضل ثمار لتتخرج من مدرستها الثلة الأولين من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، الجيل الفريد كما يسميهم صاحب الظلال رحمه الله ، الذين ملأوا رحاب الأرض بنور الهدى، إنها الدعوة الفردية أصل الدعوات، فبها بدأ الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم دعوته فدعا زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، ثم صاحبه أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ثم خادمه ثم ابن عمه رضي الله عنهم أجمعين، وهكذا شرع كل واحد منهم متحمسا لدينه يدعو بنفس الطريقة دعوة فردية حتى أن ستة من العشرة المبشرين بالجنة هم نتاج هذه الدعوة الفردية على يد أبي بكر الصديق، لله درك يا أبا بكر تـأتي يوم القيامة وفي ميزان حسناتك مثل ما في ميزان حسنات الستة أجمعين.
إنها الدعوة الفردية التي غررت بها السوشيال ميديا، فتركنا فضلها بيننا واكتفينا مقتنعين بالنشر بضغطة زر، وانقلب بنا الحال فبدل أن نتابع حال المدعو صرنا نتابع حال النشر ونتائجه، لنعرف عدد المشاهدات و اللايكات، ونبتهج كلما زاد عددها, وشغلتنا التعليقات فصرنا نركز على من يثني علينا، ولا نحب من ينتقدنا يحكمنا في الغالب ارضاء الذات والانتصار لها في تجارة من الكلام، بعيدا عن حب الدعوة نفسها والإخلاص لها، نسينا أن من خصائص هذه الدعوة متابعة المدعو لا محاورة النص مع القرناء، وأن نوجه للمدعو احتياجه من زاد الدعوة في غلاف من الود والحب والنصيحة، ثم مصاحبته ومتابعته وملاحظته والتدرج معه في صدق من المشاعر والدعاء، هكذا حتى يتحقق له على يديك التغيير والإصلاح.
وينص القانون الإلهي على أنه (‌لَا ‌يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَا) [الطلاق: 7] فبه يكون الدعاة هم الذين يتحملون المسؤولية الأكبر من هذه الدعوة الفردية بما أوتوا من علم عن العامة وذلك بقدر سعتهم العلمية ومقدرتهم في الإبداع في طرق التأثير ومعرفة أنواع كثيرة من مفاتيح القلوب، بينما الاكتفاء بضغطة زر ونشر مقال هنا وهناك لا يليق بكم أيها الدعاة أمام الله ولا يتناسب أبدا مع ما أوتيتم من علم وقدرة على استقطاب الناس إلى سبيل الهدى والرشاد.
كما أن استقطاب شخصيات معتبرة ومؤثرة تنفع الإسلام والمسلمين لا يكون إلا بهذه الدعوة الفردية ويقع على عاتق مهرة الدعاة، فهناك شخصيات غير مسلمة، وأخرى معدودة على الإسلام اسما تحتاج مفاتيح خاصة للدخول إلى قلوبها التي تكون قد ابتعدت عن ميادين الدعوة العامة فكان لابد للدعوة الفردية أن تطرق أبوابها بحكمة ثم تقرعها بشدة، بعد أن تمدها بزاد خاص بها، ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا بالدعوة الفردية بشكل مخطط ومدروس مناسب ضمن رؤا معينة حولها لاستقطابها في خدمة الدين على المدى الأبعد، فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعز الإسلام بأحد العمرين، عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام، لأنه يعرف صلى الله عليه وسلم الثقل الذي سيُحدثه إسلام أحدهم في ميزان الدعوة، فقد قال صلى الله عليه وسلم : (اللهم أعز الإسلام ‌بأحد ‌العمرين) ، فأصابت دعوته صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وكانت من نصيبه ليكون فاروق هذه الأمة فكان إسلامه نصرا وهجرته فتحا.
إن الدعاة لابد أن يدركوا تماما الآثار النابضة للدعوة الفردية في المجتمع، وأن ضغطة زر في وسائل التواصل الاجتماعي لا تؤدي وحدها ما على عاتقهم أمام الله من دعوة الناس منفردين بما يوازي سعتهم العلمية وما يتوازى مع حال المجتمع الذي تخبطته أيدي الشياطين، والدعاة هم خيرة الخيرة في هذه الأمة، فما أحوجنا الآن لمثل هذه الدعوة الفردية التي وضعت أسس الإسلام ومكنت دعائمه وأخرجت الصناديد الذين قامت عليهم أمجاد الإسلام، فصنعوا المستحيل وحطموا إمبراطوريات الكفر والشرك.
إنها الدعوة الفردية والسرية الخاصة التي تراعي خصوصية المدعو فلا يكون فيها نفاق ولا رياء ولا غرور يتسلل النفس من الأسماء على المنشورات، إنها الدعوة الفردية التي تعتمد على المقابلة وجها لوجه، حيث تلتحم فيها المشاعر والعواطف حبا في الله ودعوة مخلصة لدين الإسلام، وأملا في أن تنجو نفس من النار، مستخدمين أنسب الوسائل والأساليب في الحوار والإقناع، إنها الدعوة الفردية التي تولي المدعوين مزيدا من الاهتمام الشخصي لمتابعتهم لتغيير السلوك، في ثلاثية التغيير من طبخ الفكر والعقيدة على نار الإحساس والمشاعر وبالتقليب الملاحظ للسلوك حتى يستقيم، إنها الدعوة الفردية التي يتجسد فيها قوله تعالى (إنما المؤمنون إخوة)، فيكونوا معهم في كل الظروف تطبيقا عمليا كقدوات مشرقة ومؤثرة تأخذ بأيديهم نحو طريق السراط المستقيم.
كان هذا المجهود الجبار يبذل في زمن البساطة الدعوية والعقائدية، فكيف الآن وقد تداعت علينا الأمم وغربتنا عن ديننا بكل ما أوتيت من قوى!، كيف وقد أصبح الأمر أكبر صعوبة وأكثر تعقيدا في ظل الأدوات الدواهي للتغريب ، فهل نكتفي بثقافة (انشر وتابع عدد المشاهدات )، فمن باب أولى أن نبذل جهودا أكبر، بتطوير أساليب وفنون الدعوة الفردية، واستخدام مزيدا من مفاتيح مغاليق القلوب، لنحقق واجب الدعوة إلى الله، ونحصل من الله على الأجر الموعود .

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

سفير الاعلام العربي في فلسطين
رئيس تحرير جريدة الصباح الفلسطينية

سري القدوة يكتب : 200 يوم من العدوان : حرب الإبادة الإسرائيلية تتواصل

200 يوم من العدوان : حرب الإبادة الإسرائيلية تتواصل بقلم  :  سري  القدوة الخميس 25 …