الرئيسية / ادب وثقافة / اللغة والدلالات الجمالية في مجموعة “الطيور تعود إلى أعشاشها” لوجيه ظاهر

اللغة والدلالات الجمالية في مجموعة “الطيور تعود إلى أعشاشها” لوجيه ظاهر

IMG-20220425-WA0052

اللغة والدلالات الجمالية في مجموعة “الطيور تعود إلى أعشاشها” لوجيه ظاهر

ناهض زقوت

الكاتب والناقد/ ناهـض زقـوت

تمثل القصة القصيرة لوحة من لوحات المجتمع كأنها قطعة منه، وتأخذ دلالاتها في التباعد ما بين الواقع والخيال، إلا أنها جزء من الواقع بل تغوص فيه لسبر أغواره والكشف عن الجماليات الفنية والأدبية الكامنة في حكايات الناس وقصصهم التي تغيب عن رؤية الإنسان العادي، ولكنها لا تغيب عن الكاتب المبدع الذي يلتقط التفاصيل المتناثرة فيعيد تركيبها في قصة ذات دلالة جمالية تعبر عن مكنونات هذا الواقع ليس انعكاساً فوتوغرافياً بل تماثل ومقاربة.

تجسد هذه المجموعة القصصية “الطيور تعود إلى أعشاشها” للكاتب وجيه ظاهر صرخة في وجه الضمير الإنساني الذي ما زال لا يرى عذابات شعب تحت الاحتلال. الكاتب الدكتور وجيه ظاهر من مواليد الناصرة، يعمل استاذاً مشاركاً في تدريس أساليب تدريس الرياضيات وتكنولوجيا التعليم في جامعة النجاح الوطنية بنابلس. يكتب الرواية والقصة القصيرة والدراسات العلمية المتخصصة بدمج التكنولوجيا في تعليم الرياضيات والتعليم بشكل عام. صدر له مجموعة قصصية (دوائر التيه – عام 1994)، ورواية (أصوات المدينة – عام 2008)، وهذه مجموعته القصصية الثانية.

يأتي عنوان المجموعة ذا بعد دلالي يبعد النص عن أية قراءة أحادية فهو يؤكد أن ثمة صلة بين العنوان ومكونات النص السردي، ورغم أن العنوان حمل عنواناً من عناوين قصص المجموعة إلا أنه يكشف وعن قصدية من الكاتب بنية النص، خاصة عند تلقي النص عبر سياقات نصية تبرز طبيعة التعالقات التي تربط العنوان بنصه السردي، فالعنوان هو الذي يملك سلطة النص وواجهته الإعلامية. يقول رولان بارت: “إن العناوين عبارة عن أنظمة سيمولوجية تحمل في طياتها قيماً أخلاقية واجتماعية وأيديولوجية”. 

لقد خرج السرد القصصي في هذه المجموعة من دائرة الفعل المباشر إلى الفعل الفني، ويحاول القاص من خلال اختياره لأحداث قصصه التدليل على أن القصة ليست مادة اعلانية، بل هي واقع حياتي ومعيشي تعبر عن المعاناة والمأساة التي يعيشها أبناء شعبه. من هنا جاءت قصص المجموعة العشرين تروي تاريخ أحداث لم تعمق أدبياً على المستوى الذي يليق بالحدث، لذا ما زالت الذاكرة مفتوحة على مساحتها البيضاء لكي يكتب من عاشوا تجربة الانتفاضة الأولى عام 1987، تفاصيلها وتداعياتها وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية، ويتمدد الزمان في مساحة الأحداث على مساحة الوطن من الانتفاضة إلى حرب 1948، لكي يشعر القارئ أن المأساة مستمرة ولم تتغير، والاحتلال ما زال يمارس ساديته تجاه العائلات الفلسطينية.

ويرسم في لوحات جمالية لغوية تفاصيل معاناة الفلسطينيين في ظل الاحتلال، كل قصة تمثل لوحة أدبية نابضة بالحياة ترسمها يد فنان مبدع، فيجد القارئ نفسه أمام لوحة بداخلها عائلة فلسطينية تواجه جنود الاحتلال وهم يمارسون ساديتهم وعنصريتهم على النساء والأطفال وكبار السن. 

ويأخذ المكان الذي يتوزع ما بين قرى الضفة الغربية وقطاع غزة، بل يصل إلى القرى المحتلة عام 1948، بعداً أساسياً مغايراً عن دلالته الفضائية، أي باعتبار المكان مساحة محددة، بل يوظف المكان من خلال المنتج الفعلي لدلالات المكان والمحرك الأساسي له، وهو الإنسان، حيث يتحول المكان إلى عنصر يوجه الوظيفة السردية ويرشدها لتحقيق غاياتها المرتبطة بتفاعل الإنسان مع الحدث أو الأحداث.

إن اللغة في القصة القصيرة بشكل خاص تقوم على عدد من المقومات الجمالية، وتمثل الأداة السحرية للتخييل والتي تعيد خلق الواقع وتجسيده على الورق، ولا أبالغ إن قلت أن اللغة في هذه المجموعة جاءت متميزة طيعة سهلة لكنه السهل الممتنع إذ أبدع القاص في التعامل معها، فجاءت لينة التعبير وكشفت عن مقدرة القاص الأدبية والفكرية. كما تشعر القارئ أن البطولة للغة، وليس للأشخاص أو للمكان أو للزمان، فاللغة تحمل كل ذلك، ويوظفها الكاتب بكل قدرة وابداع لتكون رسالته في الكشف عن العوالم السردية التي جاءت تتمتع بالشاعرية العالية لتعبر عن حجم القضية التي أراد الكاتب طرحها والتعبير عنها بأسلوب يتخلله دلالات رمزية، ولكنها الرمزية غير المغرقة في الغموض، بل تأتي متوافقة مع أحداث السرد وتكشف عن دلالات اللغة التعبيرية، فنقرأ مثلاً: “أصحاب المركبات”، و”جنود غلاظ الرقبة”، و”رجال يلبسون حطة وعقالا”، وجميعها ترمز إلى مدلول واحد هو الاحتلال وأعوانه.

إن هذه المجموعة القصصية مغايرة للمألوف من حيث استخدامات اللغة وبناء الأحداث، والأسلوب الانتقادي للحاضر والماضي، والتي جاءت تعكس هموم الإنسان الفلسطيني بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، ومن وسط تلك الهموم والانفعالات يظهر البعد الانساني في مطالب الشخصيات السردية، وكذلك في رؤيتها للحل النضالي للخلاص من الاحتلال واقامة الدولة لكي يبقى العلم مرفوعاً.

وتأتي جمالية هذه المجموعة القصصية في بلاغتها ورزانة سردها ودقة وصفها، واللافت الذي يشد القارئ لهذه المجموعة أنها ثرية بأحداثها، وتنوع أفكارها، وفرادة حكاياتها، والمعرفة التي تكمن بين متونها الحكائية. فقد أجاد القاص توظيف السرد موزعاً بين الشخصية السردية والراوي، كما وظف تقنيات فنية ساهمت في جماليات السرد كالمنولوج الداخلي، والاسترجاع الذهني، وحالة الحلم، وتضمن السرد الأغنية الشعبية، والألعاب الشعبية، التي تؤكد على حضور المكان بدلالاته التراثية والشعبية.

إن هذه المجموعة القصصية بليغة حق البلاغة الجمالية، وثمة رزانة في السرد ودقة في الوصف، واللافت الذي يشد القارئ لهذه المجموعة أنها ثرية بأحداثها، وسر ثرائها تنوع أفكارها، وفرادة حكاياتها، والمعرفة التي تكمن بين متونها الحكائية.

وبرع الكاتب في إحكام نسيج قصصه من حيث العمق والثراء الدلالي وكثرة التفاصيل والشخوص، وتكفل التكثيف والإيحاء بمهمة الشرح والتفصيل، وتجلت اللغة على خلق تيار من الاشعاعات المتتابعة التي تتكفل بمهمة التعبير عن أدق التفاصيل بالقليل من الكلمات والتعبيرات. لذا لا تشعر القارئ بالملل أو العزوف عن القراءة، بل يشعر في حالة انسجام مع الذات وعودة الذاكرة لواقع غيبته أحداث كثيرة.

إن مجموعة “العصافير تعود إلى أعشاشها” هي حقاً شهادات يجب أن تذاع ويقرأ العالم مأساة الشعب الفلسطيني، فتلك القصص عكست معان إنسانية جمة، عكسها كاتبها بمدى تصميمه وحرصه في جعلها أكثر تأثيراً في نفوس متلقي نصوصه الإبداعية، وتجعلهم يتفاعلون مع ما يكتبه، ويشعرهم أنه كان قريباً جداً من مجتمعه بكتابته، ومدافعاً عن حق أبناء شعبه في الحياة.

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

د. ادمون ملحم

أنطون سعادة والمشروع الحضاري

أنطون سعادة والمشروع الحضاري   كتب د ربيع  الدبس  عن «مؤسسة سعادة للثقافة» في بيروت، …