حسن القصاص: لم تعلم أمي عندما رتبت البيت ونظفته في ذلك اليوم أنها لن تراه ثانية
الدستور- أجرت الحوار جمانة ابو حليمة
من عروس البحر الأبيض على شواطئ فلسطين، من جنة الله على الأرض، من أجمل وأعرق وأرقى مدن فلسطين الساحلية، تلك المدينة التي يصف اسمها الكنعاني مدى جمالها، لون شجرها الأخضر، رمل شاطئها الأبيض، زرقة بحرها، جمال وجوه من يسكنها ورقيّهم ،كلها مجتمعة تخلق لوحة غاية في الروعة، يافا ، التي طالما تغنى بها الزجالة وصدحت بها حناجر من غنّوا لفلسطين. التقيت عمّان أحد أبنائها وحدثني الكثير عنها وعن حبّه لها، غنى لي من تراثها وتغزل بعنبها وتينها وبرتقالها، السيد حسن صالح إسماعيل القصاص، ولد في منتصف عشرينات القرن الماضي في بيت يقع في قلب البلدة القديمة في يافا، في العام 1926، حسب تقدير السن الذي أعطي له بسبب ضياع شهادات ميلاده كمعظم أبناء اللاجئين الفلسطينيين في العالم، حيث سلبهم الاحتلال أرضهم ووثائقهم الرسمية: « انا من البلدة القديمة في يافا وهي أساس فلسطين أبي كان يشتغل بحار وكانت الفلوس (مش بس ابي) وكل البحارة وضعهم جيد جدا، لما كان يقول البحارة يعطوه.
كان عنا راديو وفيه أسطوانات، كانت حياتنا ارستقراطية نوعا ما بحكم سفره المتكرر.
نقلنا من البلدة القديمة وسكنا بين (الكبانيّات) المستعمرات وكان في وقتها الانتداب البريطاني على فلسطين، وبعدها سكّر الميناء، أغلقه اليهود وفتحوا مينا في تل ابيب وأصبح أبي يبيع الخضرة. وتراجعت أوضعنا كعائلات البحارة، وكان لأمي قطعة ارض بعد "سكنة درويش" بنينا غرفتين هناك وسكنا.
أذكر انه كان لنا جيران يهود وكانوا دوما في مشاكل والبنات يضربوا بعض بالعصى، وكان هناك ثلاث منظمات صهيونية : الهاجاناه وشتيرن والآرغون. كنت اروح على الورشة من القرية العربية (سكنة درويش) مثل الطريق من عمان والرصيفة حوالي ثلاثة كيلومتر.
وكانوا يزرعون البطيخ في يافا وكان اسمه بطيخ سيدنا علي وكانوا يصدرونه في المراكب الى لبنان واليونان وأوروبا ومصر.
كان عنا في فلسطين قبل ما تحصل النكبة مواسم، وكنا نذهب الى النبي صالح وكان دائما يتدافع اللادادوة والرمالوة من سيدخل العلم على النبي صالح أولا، لان اللادادوة كان لهم علم واهل يافا والرملة كل واحد له علم، كان يدخل اهل يافا أولا، حيث كان أهل اللد والرملة يحترموا أهل يافا وكانوا يعملوا حلاوة في هذا الموسم(الطقس) اسمها حلاوة قدوم وكانوا يضعوا فيها جوز عين الجمل.
النبي صالح موسم شعبي وكان قبله موسم النبي روبين، الناس الغنية كانوا ينصبون الخيم المزخرفة وكانوا يذهبوا الى مكان اسمه ( تل السكر )، وهو عبارة عن تل لونه ابيض لو بتقعد عليه ما يتسخ ثوبك، وكان الفقراء يجلسون تحت على مكان اسمه "المخاضة" بجانب نهر روبين وكانت النساء يجلسن هناك وممنوع على الرجال أن يجلسوا معهم.
كانوا الشباب كل واحد حامل مسدسه ويطلق النار منه، وكانوا يطهروا الأولاد هناك في كل موسم، أتذكر أنني أنا و أخي محمود تطهرنا هناك عند النبي روبين وبعدها ركبونا على الحصان و اختي أنصاف خلفنا ايضا على الحصان وزفونا هناك عند النبي روبين. وكانوا هناك أيضا يبيعون هناك الفوانيس والتين والعنب والتمرية وكان شيء فيه فرحة للنساء والأطفال والشباب وكانت الجمال مدندشة ومزينة، وبعد ان ينتهي الموسم كانوا يهدون الخيم، حيث كنا نبقى في الموسم ثلاثة أشهر.
واذكر أيضا يوم أيوب، وهو يوم في السنة تسبح فيه النساء في البحر، فيأتين للبحر من بعد العصر الى الساعة 12 ليلا ولا يحضر الرجال اطلاقا للبحر، أسوة بسيدنا أيوب عليه السلام لان البحر شافاه، فأصبح عرف وتقليد تقوم به النساء في ذلك اليوم فيذهبن ويأخذن أولادهن الذين يعنون من مشاكل بالجلد وكان هذا التقليد منتشر في جميع أنحاء فلسطين أيضا.
كان هناك مقاهي ومطاعم في يافا قبل النكبة، ولما كبرت وأصبح عمري 14 او 15 أصبحت أبيع الكازوز والقهوة كان صاحب مصنع الكازوز يافاوي اسمه بوارشي وآخر اسمه منّاع وبعدهم اشتراه يافوي اصله غزاوي من عائلة الحتو.
كان في يافا حارة الغزازوة إضافة الى جميع الاجناس وكان زوج عمتي مختار للمصريين حيث كانوا يأتون الى هناك تهريب مختبئين اسفل القطار وعندما يصل القطار الى اللد ينزل الى يافا حيث لا يتحدث احد معهم ويقيمون هناك، وكان زوج عمتي يختم لهم الهوية ويذهبوا ليعملوا للجيش البريطاني في "الكبانيات" إضافة الى ان كل شباب يافا كانوا يعملوا معهم.
في أوائل سنة 1948 بدا اليهود يضربون العرب بقذائف (المورتر) ويقتلونهم، كنا عزل ولم يكن معنا سلاح لنتصدى لهم فقد كان الواحد يبيع ارضه من اجل ان يشتري بارودة ولكن لم يكن معه ما يكفي ليشتري فشك.
علّ حلمي بالعودة يتحقق حتى لو لم يعد من العمر ما مضى
أصبح حلم الناس ان تهاجر، ناس عن طريق الميناء وناس بالبر، ناس الى لبنان وناس الى مصر ووضعوا كل اللاجئين في منطقة المزريطة وهي في قنطرة الشرق ويطعمهم حلاوة وجبنة. امي وابي وانا ركبنا مع احد الأشخاص ووصلنا الى الأردن وبدأت ابحث عن اهلي لأني لا اعرف كيف ضعت منهم في الميناء ولكن لم اجدهم حيث خرجت مع الحاج مصطفى اصرف الى الأردن وبعدها رجعت عن طريق الخان الأحمر الى غزة وكله سيرا على الاقدام بين الجبال وأذكر كان هناك ديرقديم ضخم جدا،كانت رحلة هجرة صعبة وشاقة، الى ان وصلت الى غزة، اول منظر رأيته ان الناس كانوا فوق بعضهم البعض في مقهى لعائلة القباني حيث كان هناك رادية ويجتمع الناس هناك كل يوم، وانا بعدها اشتغلت في ذلك المقهى وكانت كاسة الشاي بتعريفة.
بعدها قدم اهلي والموجودين في غزة في قنطرة الشرق الى وسط غزة البلد، وانا ما زلت ابحث عنهم، فالتقيت بهم ، حيث وكان اخي محمود يلبس لابس الجيش الفلسطيني ولكن بدون سلاح.
في غزة اعطونا خيم وكان لأهلي خيمة على شط البحر، وقتها أثلجت ثلجة قوية على غزة وتهدمت الخيم وهرب الناس للجوامع وبعدها بأسبوع بنوا معسكر كبير على البحر ووضعنا ببيوت على البحر اقامتها الوكالة ( وكالة الغوث ) وقاموا بتوزيع الحليب والفول والعدس على الناس حسب عدد أفراد العائلة وإضافة الى توزيع الطحين.
لم نأخذ شيء من بيتنا في يافا لما خرجنا، لما صارت الهجمة قام الناس ببث دعاية واشاعات عن مجازر قرى ثانية، وانه في خلال أسبوع سنرجع الى بيتنا ونصحنا المخاتير بالخروج وقامت امي بتنظيف البيت وتجهيزه على أساس أننا راجعين بعض أسبوع ولكننا لم نعد ثم سكنا في المنشية ( منشية يافا )، وجدنا أصحاب البيوت هاجروا ولم يأخذوا شيئا منها، الاكل، والطناجر والملابس، وبعدها سكنا في البيت وهو مكشوف ثم اطلق النار علينا فاخرجنا من هناك ولما وصلنا الميناء انا ضعت من اهلي. كانت حالة فوضى عارمة والقنابل فوق روسنا ولما رجعت وجدت سيارة الحاج مصطفى وطلبت منه ان ياخذني معه وكان معه أيضا دار لاصاوي فوافق وذهبت معه اذكر اغنية لفارس الشرقاوي غنائها عندما عزمنا عنده في قعدة حلوة في غزة في مطلع الخمسينيات: يا برباراوي يا عنب (نسبة الى بلدة اسمها بربرة قرب روبين وقرية يبنة والجورة والحمامة) يا قطوفك من ذهب، يا برباراوي يا عنب يا أبو العناقيد الذهب، ومما لن انساه وابقى اذكره عندما كنت اذهب عند جدتي على كرم العنب حيث كنت اقضي الصيف عندها واساعدها هي وزوجها بكروم العنب والتين الطيراوي والموازي حيث ان تين يافا لا يعلى عليه وعنبها كان يصل وزن القطف 2 كغم ومن كبر حجم قطف العنب كان يقع على الأرض ويمتلئ بالرمل الابيض وكان زوج جدتي الله يرحمه متدين ورجل نشيط ورائع وحرصا جدا على العنب.
واذكر من يافا أيضا البرتقال وشجره الرائع كان عنا البرتقال البلانسي كان احلى من التفاح والمانجا في مطلع الاربعينات كنا نصدر البرتقال لبريطانيا وامريكا وفي منتصف الاربعينات منعنا الانتداب من التصدير حيث لم يكن عندنا حكومة بل كان انتداب بريطاني ظالم وصارم حرمنا من خيرات بلادنا وتحكم فينا. انا عشت ايضا حقبة الملك فروق حيث كانت افضل فترة هي وفترة عبد الناصر.
بعد غزة رجعت الى الأردن لوحدي متسللا بي الجبال، حيث مشيت من غزة الى الخليل ليلا وبعدها ركبت بالباص الى عمان كان ذلك في العام 1956 وهناك احترت الى اين سأذهب كنت اقف عند جبري فرأيت مقهى السنترال تعرفت على الجرسون وسالته لمن المقهى فأجابني لأحمد البواب وهو يسكن في الطابق العلوي حيث كان طابق بار ثم القهوة وعندما نزل صاحب المقهى طلبت ان اعمل عنده فقبل وكان معي رخصة سواقه اشتغلت فيها وكان يعطيني 15 قرش باليوم وصحن طبيخ من عشرة فلم يعجبني الوضع فذهبت مباشرة الى رئاسة الوزارة عند رئيس الوزراء وكان في وقتها سليمان النابلسي وكان يقف على الباب حارس لابس فوتيك وليس عسكري فطلبت منه الدخول فأذن لي، فسلمت على رئيس الوزراء وقلت يا سيدي اريد ان اعمل فقال لي نريد ان نرجعكم ثانية الى غزة قلت له انا لا أريد ان أعود لقد أحببت البلد وأريد البقاء فيها، فاستدعى شابا وامره بكتابة كتاب لسيد جواده بيك شعشاعة وكان مسؤول استيراد البترول في الأردن وفلسطين فتوسط لي عنده. بعدها جاءت ثلجة قوية في الأردن وقابلت شعشاعة وهو راكب بجانب سائق شركسي، قال لي " عندما تجف طريق عمان معان تعال عندي اعطيني الكتاب".
عندما جفت الطريق ذهبت عنده ساعدني وأعطاني رسالة للكراج وأخذتها لمسؤول الكراج فيه شاحنات بين الأردن والضفة.
هناك اجروا لي فحص سواقه حيث جلس شخص بجانبي وسقت به الى ان وصلنا دوار ماركا، قال لي ممتاز، وعملت سائق شاحنة منذ ذلك اليوم وكان عملي ان اخذ تنك الماء من راس العين وكانوا انذاك يعملون على شق الطريق الصحراوي من زيزيا الى معان، ومنها أخذت أول راتب لي في الأردن 300 دينار اردني ويومها قبلت الأرض حمدا لله وسكنت في مخيم الحسين وهناك تزوجت في عام 1957 وبقيت هناك عامين ثم عدت الى غزة وهناك اشتريت سيارة وعملت عليها فوجدت ان العمل ممل هناك فتركت غزة وذهبت الى مصر وكانت حقبة الرئيس المرحوم جمال عبد الناصر، وعملت هناك في مشروع بناء السد العالي مع شخص روسي وقد اعجب جدا باخلاقي حيث لم اقبل ان اخذ البقشيش وقلت له ان لي راتب من الحكومة ولا اخذ غيره فاشترى سيارة جيب وسلمني إياها لاقضي حاجات العمل وأوصله الى حيث يريد.
عشت هناك حياة جميلة وبقيت هناك تقريبا ستة شهور فقط ثم اشتغلت في بورسعيد والقاهرة وأخذت بيت في حي الكتكات بخمسين ليرة شهري ثم عدت الى غزة.
ثم أقمت في غزة 7 سنوات واشتريت سيارة وعملت عليها انا وإخوتي ولم اقدر ان استمر ورجعت الى عمان سنة 1967 ولو أتيح لي لرجعت الى فلسطين التي لا تشعر بها بضيق حيث مناخها الجميل وارضها المنبسطة.
أمي كانت امرأة قوية ومحنكة، وأيضا أتذكر في البلدة القديمة انه اذا أردنا ان نمشي في الطريقات يجب ان نحمل الفوانيس بسبب العتمة في الليل، وكانت الأرض مرصوفة بحجارة الصوان وكان جميع اهل يافا يشعلون الفوانيس ليل نهار لان "السبطات"(اي الممرات الطويلة) كانت طويلة ومعتمة تقريبا طويلها 3 كيلو متر.
وكان بيتنا في البلدة القديمة قد بني من الحجر والقرميد وكان في البلدة القديمة شخص معه مزمار يحضره الناس للأعراس فيعزف ويسير الناس من خلفه ويضعون العريس على الكرسي.
وكان العرس يستمر 3 أيام ويحضروا "الجناكي"(الراقصات) وكانوا يغنون احلى الأغاني.
واذكر جيدا جارنا الذي كان يسكن فوقنا يبيع بوظة وكان عامل (فرقيطة) مثل الفلوكة الصغيرة وكان يضع فيها ثلج على البوظة ويبيع على شط البحر.
كان في يافا سينما اسمها سينما الحمراء كانت فخمة جدا وسينما نبيل وكانت مكشوفة وكان في يافا أيضا مقاهي أهمها الفاروقي والأمام وكانت لعلية أهل البلد.
كان في يافا مدرستين حكومتين واحدة اسمها العامرية في النزهة والثانية في العجمي اسمها الأيوبية حيث كان يدرس فيها أخي.
عندما كان يصل الطالب للصف الرابع يعتبر كأنه اخذ الثانوية حيث كان التدريس والعلم عندنا فظيع.
وكان في يافا مدارس خاصة منها الفرير والأهلية للبنات وكنت قد درست في مدرسة خاصة وحفظت نشيدها بعد ذلك انتقلت الى مدرسة حكومية.
من ذكرياتي التي لا أنساها في مخيم الحسين، في عام 1957 وكنت عريس جديد جالسا في بيتي في الحوش الصغير لأتفاجأ بالملك طلال رحمه الله قادم على فرسه – وقد كان دوما يتفقد المخيم- فنادى قائلا: يا اهل البيت انا ضيف فخجلت وضحكت وقلت أهلا وسهلا ولكنني اخجل منك يا ضيفنا، اين ستجلس في بيتي المتواضع.
ذكريات جميلة ومؤلمة في أن واحد وتفاصيل كثيرة ما زالت ذاكرتي ومخيلتي تحتفظ بها ، وحلم العودة ما زال يراودني عله يصبح حقيقة حتى لو لم يعد من عمري ما مضى ، لأقضيه في جنتي يافا".