شفافية الجمهورية الثانية
عدلي صادق
عندما انتصرت ثورة التونسيين على حكم بن علي (14/1/2011) توافقت القوى السياسية على تهيئة البلاد، لموعد ولادة الجمهورية الثانية، وأدركت مخاطر حرق المراحل، وكان ذلك الخيار صائباً. عندما هرب بن علي، أداروا الأزمة دون إدارة الظهر للدستور وللمؤسسات. في البداية، كان محمد الغنوشي، رئيس حكومة بن علي، راغباً في المساعدة على قيادة السفينة الى بر الأمان، مستأنساً بالفصل 56 من الدستور الذي يُجيز له تسلم صلاحيات رئيس الجمهورية عندما يخلع، لكن تفويض بن علي لرئيس وزرائه، كان شرطاً لم يتوفر. مجلسا النواب والمستشارين، يتفقان على إحالة الصلاحيات الى فؤاد المبزع، رئيس المجلس النيابي. يستقيل محمد الغنوشي ويبادر المبزع الى تكليف باجي قائد السبسي برئاسة الحكومة، والى الإعلان عن انتخابات للجمعية التأسيسية، لكي يُتاح للشعب اختيار ممثليه، للقيام بمهمة إعداد الدستور، وهذا أفضل الأساليب وأكثرها ديموقراطية، لإنشاء الدساتير والقيام بالمهام التشريعية والرقابية في المرحلة الانتقالية. تجري الانتخابات وتسفر عن فوز حركة "النهضة" وهي الحلقة التونسية من "الإخوان" فتدفع هذه بأمينها العام حمادي الجبالي، الى موقع رئاسة الحكومة في المرحلة الانتقالية.
الجمعية التأسيسية المنتخبة، تختار الناشط المعارض منصف المرزوقي رئيساً للجمهورية، في الفصل التاريخي الأخير من عمر الجمهورية الأولى. عندئذٍ، يبدأ الاختبار.
على امتداد المسافة بين قيام الجمعية التأسيسية وإجراء الانتخابات النيابية، التي تُدشن الجمهورية الثانية؛ أوجعت التونسيين محاولات ظلاميين أرادوا أخذ البلاد الى دروب الدم والموت والفوضى. الشيخ راشد الغنوشي وهو على رأس حركته الكبيرة، قدّم الكثير من التطمينات وإعلانات النوايا، بل إنه قال للتونسيين، ما يخالف جوهر أسباب نشوء الجماعة وأهدافها، بخاصة عندما أكد أن "النهضة" لا تريد المساس بعلمانية الدولة، ولا تضمين الدستور أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع. لكن مأزقه نشأ عندما تصدى المتطرفون لطروحاته، ثم انفلتت مجموعات منهم لممارسة الاغتيالات الإرهابية في ظل حكومة برئاسة واحد من "النهضة"، فأعيت الغنوشي الحيلة عندما اضطر لأن يوازن بين موقف إدانة الجريمة، والرغبة في عدم استثتارة المعسكر الذي يقف في خلفيتها أيديولوجياً. وبات بين شقيْ الرحى، أحدهما يراه خارجاً عن "المنهج" أكثر مما خرجت عليه جماعة "الإخوان" في أي بلد، والآخر يرى "النهضة" معادلاً موضوعياً للمتطرفين، تختلف تكتيكاته ولا تختلف مقاصده. لكن حركة كبيرة ومنتشرة، مثل هذه، لن تُعدم وسائل الوصول الى الناس، لا سيما في الأوساط الريفية، ولن يصعب عليها الحفاظ على مريديها. وفي هذا السياق، وفي موازاة الأحداث، التي تصدرتها "داعش" وحلقات "القاعدة" واختلطت الأمور على الناس، وتفشى الحديث عن جذر واحد يجمع المتطرفين ومن يطرحون أنفسهم معتدلين ووسطيين، في إطار "الإسلام السياسي". فقد كان صعباً على "النهضة" أن تحل في الترتيب الثاني من الكتل والأحزاب المتنافسة، لولا مثابرتها وبراعة الغنوشي الذي ظل ينطق ويتصرف، كرجل على قناعة بالدولة المدنية وبمقتضيات السياسة والحكم في بلد متنوع، وفي مجتمع ذي تراث خاص، على صعيد عمل المعممين والشيوخ في التاريخ الوطني الحديث.
فاز تحالف الأحزاب العلمانية "نداء تونس" بفارق 15 مقعداً عن "النهضة" وهذه نتيجة وإن أرضت القوى الاجتماعية التي اعتبرتها نصراً لخياراتها؛ فإنها ليست هزيمة كبيرة لحركة "النهضة"، لا سيما وهي تتيح لها أن تلعب دور المعارضة القوية التي تتصدى للنواقص والسياسات، وهذا بحد ذاته سيحافظ على قاعدتها الشعبية.
كل التمنيات الطيبة لتونس وشعبها على أبواب الجمهورية الثانية. فقد اجتازت اختبار الانتخابات بنجاح، ودون أية قوة إكراه داخلية أو خارجية ضاغطة على المسار الديموقراطي. وبرباطة جأش، قدمت للداخل وللخارج، تجربة انتخابية نظيفة وشفافة، وهذا بحد ذاته، انتصار للتونسيين جميعاً!
adlishaban@hotmail.com....