عدلي صادق: عدلي صادق : الشحيحون والمشيْ النكير بتاريخ الجمعة 13 يونيو 2014
الموضوع: قضايا وآراء
|
الشحيحون والمشيْ النكير بقلم عدلي صادق
لعل من أطرف المفارقات، التي رسمها الجاحظ (أبو عثمان بن محبوب) في كتاب
"البخلاء" أنه ظل على امتداد السياق يضرب الوجه بالكف ويعدّل الطاقية،
ويوالي بين الجِد واللهو،
الشحيحون والمشيْ النكير بقلم عدلي صادق
لعل من أطرف المفارقات، التي رسمها الجاحظ (أبو عثمان بن محبوب) في كتاب
"البخلاء" أنه ظل على امتداد السياق يضرب الوجه بالكف ويعدّل الطاقية،
ويوالي بين الجِد واللهو، ويعتذر عن عدم الإفصاح عن أسماء كثيرين ممن روى
حكاياتهم "لأن فيهم الصديق، والوليْ والمتجمّل" حسب تعبيره. وتراه يفضح
البخيل وينقل سمات بيئته الخاصة، بمقدرة فائقة على صناعة الكلام والمداورة
بمختلف المعاني. فهو من جهة، يشرح النزوات النفسية للبخيل ويصف عفونته، ومن
جهة أخرى لا يُبغّض القارىء فيه، إذ يلف الحكاية بالطُرفة. كثيرون من
البخلاء، كانوا يدفعون عن أنفسهم هذا التوصيف، والجاحظ نفسه يساعدهم على
دحض الاتهام، من خلال تعيين الفارق، في سياق ضاحك، بين البخيل والشحيح،
ويَروي إنه قال مرة لرجل بدت عليه طباع البُخل، يُدعى عبد الله بن كاسب:
"هل رضيت أن يُقال (عنك) عبد الله البخيل؟" أجاب الرجل: "لا أعدمني الله
هذا الاسم". سأله الجاحظ مستغرباً: "وكيف؟" بمعنى كيف يتمنى امرؤ لنفسه أن
يُنعت بالبُخل؟. أجاب الرجل:"لا يُقال فلانٌ بخيل، إلا وهو ذو مال، فسلّم
اليَّ المال، وادُعني بأي إسم شئت". عندئذٍ، ربما يكون الجاحظ قد اقتنع،
فاستدرك قائلاً:"لا يُقال فلان شحيح، إلا وهو ذو مال..". وهنا مربط الفرس
في هذه السطور! * * * ليس أغرب ــ وربما ليس أغبى ــ ممن يُرى في
المناسبات، وقد اقترب من أحد الأثرياء المشار اليهم بالبنان، لكي يمحّضه
وداداً وتبجيلاً، فيُفسح له الطريق حين يهم بالمشي، أو يوسع له المسافة حين
يجلس. والأثرياء الفاقعون في بلادنا معددون على أصابع اليد الواحدة،
يُعرفون جميعاً بالاسم والشكل، دون أن يُعرف أن واحداً منهم، بذل من ماله
شيئاً لصالح الناس، لكي يسد ثغرة مؤلمة في قطاع للخدمات ويلبي حاجة شديدة
للتوسع الأفقي فيها، فيتكفل مثلاً، بإنشاء وتجهيز منظومة وحدات صغيرة
لعمليات جراحة القلب والقسطرة، أو وحدات لغسيل الكلى. ولم نسمع أن واحداً
منهم تكفل ببناء مدرسة للنابغين، ولا بمزرعة دجاج تنتج بيضاً لأحد مراكز
الأيتام أو ذوي الاحتياجات الخاصة، مثلما يفعل أثرياء اليهود الكُثر، الذين
يتوسلون القائمين على مشروعهم الاستيطاني، أن يتقبلوا منهم الإحسان
والاعتذار، حين تكون تبرعاتهم ضئيلة قياساً على ثرواتهم! أثرياؤنا
الشحيحيون، فوق شُحهم، متصيدون لتبرعات الآخرين قناصو مشروعات. فإن تعهد
بلد مانح، بصرف مليوني دولار مثلاً، للتوسع في أبنية التعليم والصحة، وتكون
المنحة أكثر من كافية لتغطية أكلاف بناء مدرستين مثلاً؛ يتدخل الثري لكي
يجعلها مدرسة واحدة، ذات تشطيب هش ورديء، إذ يهرع رهط الأثرياء للتسابق على
مناقصة قوامها الزيادة في أسعار يتوافقون على معدلها العام، الذي لا
ينزلون عن سقفه. فهم يتمتعون بروح رياضية، فيما بينهم، يتنافسون ويتضاحكون
كما هواة الصيد بالصنانير، على ضفاف الأنهار. يُبش واحدهم كلما رأى صاحبه
يصطاد سمكة. وإن ابتنوا قرية جديدة فاخرة، فإنهم يضنّون عليها حتى بالأسماء
التي تشبه بلادنا ويعرفها تاريخنا، كأن يُستعاد ذكر اسم "يبوس" الذي عرفت
به القدس، أو "الجميزة" بالكنعانية، وهو اسم حيفا، الذي أقر به يوسابيوس
مؤرخ الكنيسة. فلم يتبق لنا الكثير من الأسماء الكنعانية التي أطلقها
الأجداد الفلسطينيون على مدنهم. فقد سرقها الصهيوني الكذوب والصقها في
قبعته وبدت وكأنها ذات أصل عبري. لكن "الجميزة" في مناخات الأثرياء، لا
تصلح عنواناً لبيع أو شراء. فأية جُميزة هذه، التي سوف تجتذب مشترياً لشقة
بخمسة أضعاف كلفة إقامتها، على أرض انتزعها الأثرياء، بنفوذهم، هي والطرق
المؤدية اليها، بسعر تراب الصحراء؟! في هذا السياق، تُلح على الخاطر، عبارة
الجاحظ في وصفه المتكرر لصاحبه الجشع أو البخيل: "وصديقٌ قد أُبتلينا
بمؤاكلته"! النضالات ومكابدات الغزو الصهيوني الهمجي، تتطلب نفوساً
كريمة. والشحيحون غير ذوي أهلية لمسار تنموي أو لرفقة في الوطن، وإن كانوا
يفتعلون الرقة والحماسة، في مناسبات الضجيج وفي مهرجات شديدة الإضاءة تعلو
فيها "الدلعونة" ويرفرف الشجن. آكلون هم وليسوا مُطعمين. رافعو أسعار
ومفتعلو مصاعب حياة، وبخلاء ماكثون لاقتناص اللقمة من يد الفقير. فهم مثلما
وصفهم "ابن محبوب": جعل الواحد منهم في بطنه، ما يحمله عشرون جَمّالاً،
وهل ينطلق الناس إلا من خفة في "الأكل"؟ وأي بَطينٍ يقدر على الحركة؟! "إن
الكظيظ ليعجز عن الركوع والسجود، فكيف بالمشيْ النكير" وهذا الأخير، هو ذلك
المشي الذي فيه شقاء! adlishaban@hotmail.com
|
|
| |
تقييم المقال |  | المعدل: 0 تصويتات: 0
|
|
|