عدلي صادق: عدلي صادق : البطيخ والسنونوْ بتاريخ السبت 10 مايو 2014
الموضوع: قضايا وآراء
|
البطيخ والسنونوْبقلم : عدلي صادق ليس أوجب، حين يستفسر مُصاب مستجد، بارتفاع طفيف في السُكّر؛ من أخذ النصيحة من مُصاب عريق. بالنسبة لي كان عمي الحاج خليل (أبو محمد) هو عنوان المشورة والنصيحة. قال لي متأنياً،
البطيخ والسنونوْ
بقلم : عدلي صادق
ليس
أوجب، حين يستفسر مُصاب مستجد، بارتفاع طفيف في السُكّر؛ من أخذ النصيحة
من مُصاب عريق. بالنسبة لي كان عمي الحاج خليل (أبو محمد) هو عنوان المشورة
والنصيحة. قال لي متأنياً، وبلهجة محذرة مع إشارة بإصبع السبابة: إبعد عن
البطيخ! أوحت نصيحته وطريقة توجيهها، أنه الحاسم في الأمر. لم
أكن أدري أن هذا البطيخ ليس إلا غرامه العميق. ومن ذا الذي يخلع من نفسه
غراماً مقيماً في العمق؟! بطيخ الصيف، صديق الإنسان في المناطق
الحارة. ولكل إنسان ذكرى معه. فالأيام تمر والبطيخ يتدحرج، لتظل واحدة
البطيخ الراهنة، ممثلة لكل ما مرّ من هذه الفاكهة، اسطوانياً كان أم
كروياً. تبدلت طرق فتح البطيخة بالسكين، ووسيلة تبريدها، وظل مذاقها هو
نفسه منذ أن تلذذ به المصريون في زمن الأسرة الفرعونية الثانية عشرة. في
القديم، كانت العائلة تجتمع في الظل، حول بطيخة كبيرة، ويتولى الكبير
شقحها، فيعاجل الصغير صغيراً آخر، ليخطف الدائرة الأولى، التي يتفرع منها
القص في شكل شعاعي. لم يكن مألوفاً نزع القشرة وتقطيع الثمرة وتصفيف
مربعاتها. كانت الشقحة تشمل جزءاً من القشرة، فيؤكل الأحمر الحلو، ويُترك
اللب الأبيض مع غلافه الأخضر، وهو من نصيب الدواجن! تغييرات
كثيرة، في عادات الأكل، نشأت بعد إدخال الثلاجة الى بيوتنا. في القديم، كان
يُصار الى تخفيف سخونة البطيخة، بوضعها في الظل، أو تعريضها لنسمة هواء.
إن للبطيخ في ذاكرتي لقطات كثيرة، واحده منها تأخذني الى الحديث عن أصل
وفصل البطيخة الصديقة، حسب ما عرفته قبل سنوات طويلة، من الموسوعة
البريطانية. كان جدي الحاج حسن، وشقيقه الأكبر الحاج حسين،
تاجرين يشتغلان فيما يأتي الى بلادنا وما يمكن تصديره. والرجلان أحسّا
بأهمية ما يفعلان، وعلاقته بالوجاهة الاجتماعية، فعُرف كلٌ منهما، في
ظهوره، بالعبائة والمرير المقصّب. أحدهما، وهو جدي، انتُخب عضوا في مجلس
صغير العدد، كان يُدير بلدية خان يونس. في تلك الأيام، كان قطار السكك
الحديدية، المحمل ببضائع مصرية، يأتي ثم يعود بعرباته الفارغة. رأى
التاجران فائدة معقولة، من تعبئة عربات القطار التي تجلب لهما البضائع؛
ببطيخ فلسطيني يُباع في مصر، ويُنقل اليها بأجور زهيدة. يجري تجميع البطيخ
من المزارعين، في نقطة قصيّة، من محطة القطار في خان يونس. أثناء التجميع،
كان الفتية، ومعهم كبير أو في غياب كبير؛ يحرسون البضاعة، ويشقحون ـ بالطبع
ـ بطيخاً، ويجمعون البذور. نوع من أشجار "اليوكالتوس" التي نسميها
"الكينيا" تظلل موقع المحطة، وتلك شجرة وظيفتها التظليل وكفى، وتمتاز بجودة
أخشابها وبارتفاع كبير لأطوالها وبخضرة دائمة لأوراقها. هنا، ومع حضور
البطيخ في فيء الشجر؛ يرتع طائر السنونوْ أسراباً. يلتقط من بذور البطيخ ما
تطاله المناقير. محطة القطار، كانت استثنائية في بهجتها، إن كان
وهي تودع قطار الفجر، أو تستقبل قطار المساء، الى ومن مصر. مدير المحطة
"أبو حسيب" كان شامخاً كأنه عمدة برلين في زمن الرايخ الألماني بمعناه
الإمبراطوري. هو والد المخرج الفلسطيني ـ الأردني الراحل حسيب يوسف، وأصله
من "حِجا" في قضاء نابلس. فقد اتخذ "أبو حسيب" لنفسه منزلاً في خاصرة
المحطة، تحف به الزهور، ويصطخب في سمائه طائر السنونوْ. لم يفارق المشهد،
مخيلة صديقي الفنان عبد الرحمن المزين، صاحب الملصق الأول في تاريخ الثورة
الفلسطينية. فقد عرض عليَّ عبد الرحمن، سبعين لوحة بالفحم، لأوضاع طيران
السنونوْ فوق المحطة وبين أشجارها. وفي المقدمة، يعلل تكاثف الطير في
المكان، بوجود بذور البطيخ، الذي كان يجمعه الشقيقان الحاج حسين والحاج
حسن. بعد مرور السنين، كنت أعاند ذاكرتي، فيما علق بها في سن
الطفولة. فكيف نُصدِّر بطيخاً الى مصر، علماً بأن هذه الثمرة عُرفت في
الجزء الجنوبي من إفريقيا وفي وادي النيل، قبل أن ينقلها الاستعماريون الى
العالم، مثلما نقلوا الشاي والتوابل؟!. إن هذا هو ما كان يحدث، ربما لأن
بلادنا ذات المناخ المعتدل، أقل استهلاكاً للبطيخ من بلاد أكثر كثافة
سكانية وأشد حرارة. ثم إن بطيخنا، سيكون إضافة جد متواضعة قياساً على ما
ترفد به مقاثي المصريين أسواق الفاكهة. لا محطةَ اليوم ولا قطار
ولا ظلال ولا كهرباء للتبريد ولا سنونوْ. البطيخة وحدها هي الحاضرة صيفاً
على مألوف عادتها. لا نعلم من أي حقل جاءت. إنها بطيخة وحسب. ويا عمي الحاج
خليل، يقولون في وصفها العلمي، إنها تطفىء الظمأ وترطب البشرة، وتنشّط عدة
النكاح وتفيد الحامل، وتقوي العين، وتساعد على الحمية، وتوازن مستوى
السُكر في الدم، وهذا ــ الأخير ــ هو بيت القصيد. ابتعد أنت يا عمي الحاج
عن البطيخ، لكنني لن أبتعد! adlishaban@hotmail.com
|
|
| |
تقييم المقال |  | المعدل: 0 تصويتات: 0
|
|
|