
البيك سُكَّر
بقلم: عدلي صادق
كان
يرتاد، في خمسينيات القرن الماضي، أحد مقاهي الشاطئ، الناهضة على شرائح من
جذوع النخيل، المسقوفة بسعفها والمغطاة الأجناب بذلك "الجريد". وبخلاف
رواد تلك السقائف الفقيرة، المتخففون
البيك سُكَّر
بقلم: عدلي صادق
كان يرتاد، في خمسينيات القرن الماضي، أحد مقاهي الشاطئ، الناهضة على شرائح من جذوع النخيل، المسقوفة بسعفها والمغطاة الأجناب بذلك "الجريد". وبخلاف رواد تلك السقائف الفقيرة، المتخففون من معظم ملابسهم؛ كان "البيك سُكّر" يأتي في الصبح وفي المساء، بملابس ارستقراطية: بدلة من الجوخ الإنجليزي، وربطة عُنق، وحذاء لامع، ويعتمر طربوشاً قاني الاحمرار، يتدلى منه جانبه، خيوط كأنها عُرف الديك. يطلب طاولة النرد، لكنه لا يقبل الشراكة. فمعلب النرد الذميم، الذي يتنافس فيه اثنان حاضران، هو عند "البيك سُكَّر" لعبة ضارية بين واحد حاضر، وآخر مُفتَرضٌ وغائب، سماه العابرون إبليساً أو شبحاً أو شيطاناً. يفتح طاولة النرد ويوزع الحجارة. يُعطي لنفسه الحجارة البيضاء ويرتبها، ويُخصص السوداء لمنافسه الشبح. يرمي، مرة، الزهر لنفسه، ويحرك الحجارة، ومرة أخرى لإبليس، فيحرك له حجارته ببراعة لا تدع مجالاً لاعتراض إبليس نفسه. لكنه، في كل مرة، يخرج من السقيفة فائزاً، إذ لا يليق بالأبيض أن يخسر!
عمنا "البيك سُكّر" كان مفوّها ذرب اللسان حاضر البديهة مفتوناً بنفسه. وصاحب السقيفة من الربابنة القدامى ومن شيوخ البحر، وذلك هو جعل الرجل ينام ويقوم على أوهام عظمى. لم تفتح له بدلة الجوخ طريقاً سالكاً الى المجتمع، ولا أعطته مكانة ولا صدقية. بل إن النمامين من الناس، اشتموا - دون أن يشموا - رائحة الخمر في فمه، وإلا من أين له كل هذه الطلاقة والروح المتوثبة، والمواظبة على السقيفة، مع اللاتناسب بين المكان، برماله الرطبة، وما عليه "سُكَّر" من الهندام الأنيق، والنص البليغ!
بعضهم أغواه التأويل. قال إن الرجل يصطنع الشياطين والخصوم لنفسه في السقيفة وأمام شيخ البحر. وبمجرد أن تحضر افتراضاً، يلاعبها. وفي طريقة اللعب، يظل حريصاً على إقناع نفسه بأنه الكيّس الأمين. آخرون قالوا، إنه بالهندام، وبالترفع، وباللسان السليط؛ إنما يُقاوم ماضيه. غير أن مستظرفيه الذين لا يعرفون شيئاً عن ذلك الماضي، قالوا إنه لا ينطق عن الهوى، وإنه صاحب حكمة ونبراسٌ للحيارى!
متطفل سأل "البيك سُكّر" لماذا تختار لنفسك دائماً الحجارة البيضاء؟ وقبل أن يسمع الإجابة، استطرد السائل قائلاً: إن هذا ليس عدلاً، فربما يرغب إبليس في الحجارة البيضاء، متقمصاً إهاب النقاء. لكن "البيك سُكّر" أجاب كمن يصحح لسائله: لن يكون منافسي إلا شيطاناً أو غامضاً غائباً أو موسوماً بالشحار.
في تلك السقيفة، أحس الرجل بأن لعبته اليومية بين قطبين في كل مرة، تضاهي السجال اليومي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ربما أحس إنه محور الكون، وأنه هو وليس سواه، الذي يفك ألغاز البحر الغامضة. لم تطرأ في ذهنه، في أيٍ من أماسيه المتأخرة، فكرة اللا جدوى من ملاعبة نفسه، والاستئثار بطاولة النرد وبملعب السجال. ظل على قناعة بأن الدنيا والتاريخ ينعقدان له، وأن ليس للسقيفة ما بعدها، ولم يكن قبلها شيء!
لكن موضع الغرابة، في تعليقات "البيك سُكَّر" على نتيجة كل "دَق" يتبدى حين تسمعه ينقل حواراً كاملاً، بينه وبين منافسه المُفترض. فقد أظهر الرجل، براعةً في تقويل من لم يقل، وكان يكذب. وربما بسبب تكرار رواياته المُختلقة، على لسان الذي لا يلاعبه؛ صرخ أحدهم في وجهه: كفى يا "بيك سُكّر" إن ملعبك صغير، ولا يلاعبك فيه أحد، ثم إن الحجارة البيضاء، ليست هي القلب ولا الصنيع الأبيض، وطاولة النرد هذه، غير مستحبة في ديننا الحنيف، ألم يقل المصطفى عليه السلام، إن من يلعب النرد، كمن يغمس يده في دم خنزير!
adlishaban@hotmail.com