نشرة دورية تعني بالترجمة عن الصحف والمجلات العالمية

نشرة مترجمة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر التوجيه السياسي

تصدر عن هيئة التوجيه السياسي والوطني

فـي ذكـرى القـائـــد الشهيـــد

بقلم الشيخ تيسير رجب التميمي *

 

قال تعالى " من المؤمنين رجّالٌ صَدَقوا ما عاهَدُوا الله عليه فمنهم من قَضَى نحبهُ ومنهُم من ينتظرُ وما بدلُوا تبديلاً"

قبل عام وفي 11/11/2004 م فقدت فلسطين بشعبها وقضيتها، وفقدت الأمة العربية والإسلامية، وفقد أحرار العالم وشرفاؤه قائداً وزعيماً عظيماً وإنساناً مميزاً، فارساً ترّجل بعد أن نذر نفسه للدفاع عن حقوق شعبه، وكرس حياته مجاهداً  في سبيل ربه ووطنه ومقدساته، وحمل آمال وطموحات أبنائه في قلبه وروحه، وظلت عينه ترنو إلى القدس وأقصاها المبارك.

افتقدناه في وقت أحوج ما نكون فيه إلى حكمته، وقوة عزيمته وصدق إرادته، فقد قضى عمره في خدمة قضيته والجهاد من أجلها والدفاع عنها من على كل المنابر، ومضى غير مبالٍ بما يصيبه من ملاحقة ومطاردة، ورفض جميع مناورات وادّعاءات الساسة الإسرائيليين، للنيل من الموقف الفلسطيني الواعي لما يُحاك ضده من مؤامرات في الظلام، وأصر على المطالبة بالسيادة الكاملة على القدس ومقدساتها، حتى أصبحت حياته من بدايتها إلى منتهاها سيرة حافلة بالتضحية والفداء والصبر والثبات.

لا ننسى موقفه في كامب ديفد عندما رفض المساومة على القدس والمسجد الأقصى وعودة اللاجئين، واتخذ موقف الند للند أمام رئيس أكبر دولة في العالم وقال له "لا" مستنداً في ذلك إلى موقف شعبه الذي لا يلين ولا يستكين.

ونتيجة لهذا الموقف فُرض عليه الحصار، ومنعت عنه كل أسباب الحياة، ومورست عليه جميع أنواع وصور الضغوط، إلاّ أن صلابة موقفه رفعته فوق الحصار وأدت إلى استشهاده.

تعتصر قلوبنا أسى على رحيله، وتذرف عيوننا الدمع حزناً على مصابنا به، فهو الذي بدأ أول ثورة للشعب الفلسطيني وأنشأ اول كيان له، وحّوله من مجموعة لاجئين مشردين يجوبون البلاد، إلى شعب يجاهد في سبيل حقوقه المشروعة وقضيته العادلة، التي اكتسبت بفضل مواقفه الحكيمة الشجاعة التأييد والمناصرة في جميع أنحاء العالم.

كان بقيادته التاريخية مثالاً للزعيم الحقيقي الذي يعيش المعاناة مع شعبه، ويمثل تطلعاته وطموحه في تحقيق آماله بالنصر والتحرير ودحر الاحتلال، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس المباركة على كامل أرضه الفلسطينية، وضرب رحمه الله بصموده الأسطوري اروع الأمثلة في مواجهة المخططات العنصرية التي تستهدف هذا الشعب وقضيته ووجوده وهويته، وفي الدفاع عن شرف وكرامة الأمة ومقدساتها وتراب أرضها المباركة، فأجمع شعبه بكافة فصائله وأطيافه على أنه القائد التاريخي الرمز، الذي يجسد الحلم والأمل والهدف، ربما اختلفوا معه لكنهم لم يختلفوا أبدا عليه، حتى ألد أعدائه وصفه يوم وفاته بأنه كان آخر القادة العمالقة، وحقاً، لقد خسر العالم برحيله رمزاً مدافعاً عن الحرية والاستقلال، وقائداً عظيماً من قادة حركات التحرر في العالم.

أبقى بابه مشرعاً لاستقبال جميع أبناء شعبه، يستمع إليهم في شكواهم ومعاناتهم ويجتهد في تلبية احتياجاتهم فخسروا برحيله الوالد والقائد والرائد والإنسان، خسروا الأب الحاني والأخ الراعي لكل أبناء الوطن، فمن لليتامى والثكالى؟ من للأرامل والمساكين وأسر الشهداء والجرحى؟ ومن للأسرى والمهدّمة بيوتهم من بعده؟

عندما توفي هذا القائد لم يبكه شعبه وحده، بل بكته الملايين في مشارق الأرض ومغاربها، بكى الجميع فيه الرجل الثابت على مبادئه المتمسك بحقوق شعبه، الصامد أمام أعتى قوى الظلم والطغيان في هذا الزمان، فكان قدوة يحتذى ومثالاً يقتدى للقادة والحكام، فلن ينسى أحد عندما شيعه العالم في أوروبا والقاهرة، وعندما شيعه شعبه في رام الله بصورة لم يحظّ بها أي زعيم من قبل.

يكفي هذا القائد المجاهد شرفاً ورفعة أنه استشهد مدافعاً عن الثوابت التي عاش ومات من أجلها، ونحسب أن قد صدق فيه قول الله عز وجل } مِنَ المؤْمِنينَ رجالٌ صّدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فمِنهُم مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومِنهُم مَنْ ينتظِرْ وَمَا بَدْلُوا تَبديلاً{ ( الأحزاب 23) .

ويكيفه كرامة أنه شيّع في الأرض وفي السماء، وفي ثلاث قارات، اوروبا وإفريقيا وآسيا.

ولا يفوتني في هذه العجالة أن أسجل اللحظات الأخيرة التي قضيتها مع الرئيس، فقد زرته في المقاطعة قبل نقله إلى باريس بأيام، وكان صائماً رغم مرضه ووهن جسمه، فنصحته بالفطر لأن الله رخص له، وألح الحاضرون عليه بذلك فأبى وأصر على مواصلة الصيام.

كان يكثر من حفظ وتلاوة القرآن الكريم فيجد فيه الراحة، ويستمد منه القوة في مواجهة العدوان والمخططات الإسرائيلية ضده وضد شعبه الفلسطيني وقضيته وحقوقه، وفي الدفاع عن شرف وكرامة الأمة ومقدساتها.

وبعد نقله إلى مستشفى بيرسي في باريس، آثرت أن اكون إلى جانبه وفاء له بحقوقه علينا، عندما دخلت عليه شعرت بمهابة القائد، رغم الدم الذي كان ينزف من كل جزء في وجهه نتيجة التميع الشديد في الدم جراء ما أصابه من مكروه، قضيت ساعات طويلة إلى جانب سريره أتلو القرآن وأدعو له، وقبل ارتقاء روحه إلى بارئها صفا وجهه وعلت الابتسامة محياه، ثم أسلم الروح قال تعالى } وُجُوهٌ يَومْئذٍ ناضِرَةٌ{ (القيامة 22 ـ 23).

وبعد استشهاده أشرفت على تغسيله وتكفينه، توقعت أن أرى جسداً مترهلاً لشيخ عجوز هرم، وكانت المفاجأة، جسد ملىء بالحيوية والعنفوان يدل على خلوه من الأمراض، وما ذاك إلاَّ لأنه كان حريصاً على العناية بصحته وممارسة الرياضة رغم الحصار الطويل.

وعند دفنه في المقاطعة لم أتمكن من فتح التابوت الذي نقل فيه جثمانه من باريس، نظراً لتدافع الجموع الحاشدة من المواطنين الذين قدموا من كل حدب وصوب، لإلقاء نظرة الوداع على قائدهم ورمز نضالهم رغم إجراءات الاحتلال الإسرائيلي القاسية، ولم أتمكن من ذلك إلاَّ بعد منتصف الليل بفتح القبر وإخراجه من التابوت ودفنه حسب إحكام الشريعة الإسلامية.

ووفاء بحقه نرى لِزاماً علينا أن نكمل المسيرة ونبقى على العهد، متمسكين بالمبادىء الأساسية لقضيتنا، محافظين على ثوابتها كما حافظ، فإن التآسي والإقتداء أصدق دليل على الوفاء وتخليد الذكرى، فقد ظل متمسكاً بالقدس وعروبتها رغم كل الضغوط فكان يردد دوماً : لم يولد القائد الذي يمكن أن يفرط بالقدس، وليس فينا وليس بيننا وليس منا من يفرط بذرة من تراب القدس، وأما عودة اللاجئين فقد جعله خطاً أحمر عنده لا يجوز الإقتراب منه أو تجاوزه فقال : إن عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم حق مقدس كبقية المقدسات.

رحل أبو عمار، لكنه ترك رفاق دربه الذين خاضوا معه الملاحم وصمدوا في الشدائد، وعلى رأسهم الأخ الرئيس محمود عباس "أبو مازن" فها هم يحملون الراية ويواصلون المسيرة، محافظين على العهد والوعد متمسكين بالحق، القدس في عيونهم والأقصى في قلوبهم، وترك شعباً صامداً مرابطاً، يناضل ويكافح ويبذل النفس والنفيس من أجل وطنه ومقدساته وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس المباركة.

إن من ترك هذه المآثر فينا لا يموت بيننا، فإن رحل بشخصه فهو باق بمسيرته الجهادية التي اختطها، والتي لن تتوقف بإذن الله حتى تتحقق أهداف شعبنا وحقوقه المشروعة.

وختاماً ومع وداع الحبيب أقول : إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا عز وجل وإننا لفراقك يا أبا عمار لمحزونون، و } وإنا للهِ وَإِنا إليهِ راجِعُون{( البقرة 156)

ــــــــــــــ

* قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي