نشرة دورية تعني بالترجمة عن الصحف والمجلات العالمية

نشرة مترجمة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر التوجيه السياسي

تصدر عن هيئة التوجيه السياسي والوطني

رجل لـــن يمـــوت

بقلم: ربحي محمود

 

أن أمر الكتابة عن شخصية كياسر عرفات غاية في الصعوبة، كما انها تكون غاية في الحيرة أمام بحر حياته المتلاطم الأمواج، فلا تدري من اين تبدأ ولا كيف تسير ولا الى اين قد ينتهي بك الأمر، خاصة وان الجدل يحتدم حول كثير من القضايا المتعلقة برحيله مثلما كان الجدل محتدماً في فترة من الفترات حول البدايات وبالمثل حول مجريات المسيرة.. اذن يمكن القول ان التوقف في أية محطة من محطات حياة الرجل يصل بنا الى الحيرة وقد يصل أحياناً الى طرق مسدودة بسبب عدم الخلوص الى مواقف واضحة ونهائية تقول عندها ان هذا الأمر بالقطع هو على هذا النحو ورغم ذلك فان جوانب كثيرة في حياة الرجل الذي أصبح رمزاً لشعبه وقضيته شاخصة للعيان ولا تحتاج الى مزيد من الايضاح ورغم ذلك نقول: ان شخصيات من طراز ياسر عرفات تذكرنا بشخصيات أخرى عبر التاريخ دارت حولها روايات وقصص وإشاعات وحتى أساطير يصعب التسليم بصحتها الكاملة ولا يمكن الا ان تكون اجزاء من تلك الروايات والقصص تحمل جانباً كبيراً من الصدق والواقعية، فهل صنع التاريخ ياسر عرفات ام انه من اولئك الرجال الذين صنعوا التاريخ.. الحق يقال: ان الرجل كان واحداً من صانعي التاريخ عبر نصف قرن من الزمان سجل له فيه انه مفجر الثورة في 1/1/1965، بعد ان انشأ ومجموعة من زملائه تنظيماً سياسياً امتلك رؤية فكرية جديدة، تدرجت تلك الرؤية الى مرحلة رسم من خلالها البرنامج السياسي (استراتيجياً – وتكتيكياً) ونهض بالأمر فتية آمنوا بربهم وبقضيتهم تم اصطفاء كادر متميز يعمل الى جانبهم وليس يعمل معهم بمعنى انهم كانوا من البداية شركاء ولم يكونوا موظفين، وقد يكون هذا البرنامج وتلك الرؤية أحد الأسباب الجوهرية في ديمومة حركة فتح واستمرارها في صلابتها، رغم ما حيك ضدها عبر أكثر من نصف قرن من الزمان من مؤامرات، وما أعد لها بليل وما تم تبييته من نوايا وأهداف من قبل جهات عدة خرجت منها فتح ببعض الخسائر وبعض التشظيات، ولكنها لم تنته ولم تتفرق وتذهب ريحها، ولم تستطع القوى التي تكالبت أحياناً على هذه الحركة ان تصل الى ما تريد وتفقدها توازنها، ومن ثم ذوبانها وتلاشيها، وهذا مؤشر حقيقي على دقة الرؤية وصوابية البرنامج ومصداقية الأهداف والمنطلقات.. وقد أعطت قيادة ياسر عرفات لحركة فتح زخماً لا يخطر ببال، حيث استمرت الفصيل الأول على ساحة الأحداث دون منازع في خضم تشكيلات فصائلية متنوعة متقاربة او متباعدة، رؤية ومنهجاً وسبيلاً، الا ان فتح ظلت في موقع الصدارة على مدى المسيرة، وظل زعيمها وقائدها زعيماً لمنظمة التحرير الفلسطينية وقائداً لها منذ العام 1968 وحتى استشهاده في العام 2004.

باختصار لقد عرف الناس (في العالم) الثورة من خلال اعتمار ياسر عرفات لكوفيته عبر المسيرة ومن خلال بزته العسكرية التي لم يتخل عنها، حتى عقب عودته وطلائع قواته الى أرض الوطن ولم تكن هذه المسألة المتعلقة بالشكل الخارجي مفرغة من محتواها بل اعطت رمزيتها ودلالاتها وتأثيرها في نفوس الفدائيين والمقاتلين الذين قدموا حياتهم فداء لوطنهم ورموز هذا الوطن من علم ومن (حطة مرقطة) ترقى الى مستوى العلم حتى بات العالم يشير الى الفلسطيني من خلال كوفية ياسر عرفات، وبالتالي فليس من المبالغة ان نقول انه كان رجلاً في شعب وشعباً في رجل وبالتالي فان الكاريزما الخاصة بياسر عرفات تظل نموذجاً ويمكن وصفها بالندرة، وذلك لما تمتع به الرجل من علو همّة وذكاء سياسي وحنكة قل ان تتوفر في كثير من القادة عبر التاريخ، كاريزما تحمل سمات التفوق جعلت احترام الرجل يتجاوز الآفاق وصار محط أنظار العالم في فترات متعددة من سجله النضالي، وضمن الخط البياني لمسيرته، مقولته الشهيرة في معركة الكرامة في العام 1968 (هبت رياح الجنة) لم تنس ولا أظن ان أحداً ممن سمعها من رفاق مسيرته قد نسيها يوماً بل لقد تمثلوا بها في مواقف الشدة، وكانت الكرامة كمعركة قد أعادت حقاً للأمة كرامتها بعد نكسة العام 1967.

وبعد ان اصيبت الأمة بحالة من الأعياء واليأس والاحباط الا ان قرار المواجهة والصمود والتصدي والاصرار على النصر كان بيد صاحب الكوفية الذي سجل موقفاً بطولياً مع اخوانه جعل المئات لا بل الآلاف ينهالون للتطوع في صفوف حركة فتح و م.ت.ف لدرجة انها لم تكن تملك الامكانات ولا هي مهيأة لاستيعاب كل هذه الأعداد.

كما كان صمود ياسر عرفات وأخوانه في حرب العام 1982 التي شنتها اسرائيل على لبنان لكسر شوكة المقاومة وتفكيك بنيتها التحتية صموداً اسطورياً شهد له العالم والتاريخ انطلاقاً من ايمان الرجل بحتمية النصر او الشهادة..

وانه اذا كان لا بد من المواجهة فلا سبيل الا بالتهيؤ والاستعداد للمواجه وبذلك الجهد المطلوب وصولاً لتحقيق الهدف الأسمى، اذن هذا ما تحدثنا عنه في مستهل هذه العجالة عن شخص استطاع ان ينشيء تنظيماً من جهة وان يسهم بجرأة في رسم رؤية وبرنامج قائم على اسس سليمة يصعب على اي متصيد ان يجعل منه صيداً سهلاً.

كان ياسر عرفات –رحمه الله- لا يكاد يحط على الأرض حتى يطير ثانية، ولم أعرف انساناً يملك كل هذا الاقتدار على الطيران والترحل وقطع المسافات وزيارة الدول والحكومات من أجل مصلحة شعبه وقضيته التي لعبت وتلاعبت بها الأمم، الا ان هذا الرجل كان على استعداد ان يذهب الى آخر نقطة في الكون من أجل مصلحة شعبه وقضيته، وبالتالي رأيناه وقد وقف في الأمم المتحدة في العام 1974 وهو يخاطب العالم بأسره ليقول: جئتكم حاملاً غصن الزيتون في يد والبندقية في يد، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي، وكان خطاباً تاريخياً ترجم معناه الشعب ورغبته الأكيدة في السلام العادل والشامل والدائم، وقد ظل ياسر عرفات كما هي قضيته يشكل رقماً صعباً في المعادلة، ولم يعد بمقدور أحد ان يتجاوزه او ان يفرض عليه أمراً لا يريده لشعبه، وقد صمد وقواته في وجه الرغبة لدى البعض بمصادرة القرار الوطني الفلسطيني ولعبت به الرياح وتلاعبت به الأحداث وبشعبه الا انه ظل قابضاً على الجمر صابراً مكافحاً.

ولدى سؤال ياسر عرفات عقب الخروج من بيروت، وبعد صمود أمام اعتى آلة عسكرية ولمدة ثمانية وثمانين يوماً، عندما سئل الى اين؟ أجاب وبلا تردد الى القدس.. الى القدس.. الى فلسطين..

وكرر مراراً انه يرى نوراً في آخر النفق المظلم ولم يصدق الكثيرون ذلك، وقد ظنوا انه ساحر أو لعله قد اصيب بمس، الا ان رؤيته كانت ثاقبة وخاصة عندما صحا العالم والشعب الفلسطيني يوم 3/7/1994 لتشرق شمس ذلك اليوم وياسر عرفات بين ابناء شعبه في غزة بعد ان ودعناه يوم 2/7/1994 في مطار القاهرة، وبعد لقاء جمعه والرئيس مبارك، وكان استقبالاً غير عادي لرجل غير عادي يعود الى وطن انتظره طويلاً..

وقد كانت احدى امانيه الغالية ان يصلي في القدس الشريف في الأقصى، وحتى ان يدفن هناك الا ان الجزء الأول لم يتحقق والأمل كبير ان نصل الى تحقيق الجزء الآخر من أمنيته فينقل رفاته الى القدس الشريف في باحات الأقصى..

قد لا نضيف جديداً أمام هذا البحر المتلاطم من الأحداث التي عاشها زعيم مثل ياسر عرفات، وقد لا تتسع المساحة لذكر أشياء كثيرة، ولكنني سأقتطف بعض المواقف والمشاهدات التي عشتها في فترة الثمانينات والتي سميت عندنا بسنوات الجمر عندما كان في زيارة الى الكويت وفي قصر دسمان المخصص لضيافته وصل اليه نبأ استشهاد القائد الميداني على ابو طوق انخرط في البكاء، وقد وصل بكاؤه الى حد النشيج، وقد سجل موقفاً قد يرى البعض انه مشهد تمثيلي، ولكنني وغيري كثر كنا نستشعر الصدق والألم والمرارة التي يعيشها رجل يرى قادة من ابناء شعبه، شعب الجبارين، يستشهدون، وقد ذكر لي كثيرون ان مثل هذا الموقف كان قد وقع كثيراً في حياة الرجل، حيث يملك حساً مرهفاً وعاطفة جياشة ودمعاً قريباً.. ولقد سجل ياسر عرفات مواقف كثيرة تعكس انسانيته من جهة وصلابته وقوة شكيمته من جهة أخرى..

انه الرجل الذي أجمع الناس على رمزيته واحترامه وتقديره حتى على الرغم من الاختلاف معه، وفي كثير من الأحيان وفي كثير من الأمور، رجل لم يكن للزمن عنده حدود، فقد تلتقي به عند العاشرة صباحاً أو عند الثالثة فجراً لا فرق لا ينام من الليل الا أقلّه ولا يترك لحظة من الزمن دون عمل ودون انجاز كان يملك عقل حكيم وقلب طفل يفيض حباً وحناناً، ويكون في ساعات الغضب مزلزلاً أثقل من الجبال الراسيات وتكون مواقفه نهائية وغير قابلة للنقض بلا تردد او مواربة احترمه الجميع لأنه كان يمثل الآب والمرجع والمظلة للجميع صغاراً وكباراً كان يلتقي رؤساء الدول وكبار الساسة في جزء من نهاره او ليله كما يلتقي مجموعة من اطفال فلسطين فيترك لدى الجميع الانطباع بأنه عملاق لا يجاريه أحد في القدرة والاقتدار والوضاءة والسماحة، بالاضافة الى حرص شديد على وضع كل أمر في نصابه..

كنا قد التقيناه في احدى زياراته الى الكويت في حجرة نومه، وكان في مقدمتنا سليم الزعنون –ابو الأديب- رئيس المجلس الوطني الفلسطيني وأخوة من اعضاء اقليم الكويت حسن المطري، عبد الرؤوف العلمي، وسالم ابو لغد، بالاضافة الى عدد من الزملاء من اسرة تحرير الصخرة (صحيفة تعبوية كانت تصدر في الكويت للفترة من 1984-1990) وكانت جلسة طويلة، تشعب فيها الحديث وامتد فيها الحوار الى قضايا كثيرة والى ان سألته وقلت: ان احدى الشقيقات العربية تضع فيتو على حضورك لقمة الرياض وامتد السؤال.. وكان يرمقني بعينيين متوهجتين تشعان ألقاً ونوراً ثم تحركت شفتاه واهتز وجهه وأجاب بانفعال ظاهر يعكس مدى اعتداده بنفسه وبشعبه وبقضيته، ثم قال: لا أحد يمكن ان يضع فيتو على ياسر عرفات وشعبنا الفلسطيني، بل ياسر عرفات هو الذي يضع الفيتو على الآخرين، اننا متمسكون بمواقفنا وقرارنا الوطني المستقل، ولن نكون رهائن لأحد.. نحن نفعل ما تتطلبه مصلحة شعبنا ولينتبه من اصيب بغفلة عن مصالح شعبنا وحقوق شعبنا قبل ان يجرفهم الطوفان ويأخذ في طريقه اليابس والأخضر، اما نحن فنقول لهم: يا جبل ما يهزك ريح، نعم.. وجدت نفسي أمام رجل يتحلى بالشجاعة المطلوبة في كل المواقف، لا تأخذه في الحق لومة لائم.. رجل قدّم لشعبه وقضيته عمره كاملاً ولم يأخذ لنفسه شيئاً لم يحصد غير المجد والخلود ويقيني ان سنوات كثيرة ستمر قبل ان ينتهي الحديث عن رجل شغل العالم وشغل الدينا بقضية شعبه وحقق لنفسه مجداً لن يستطيع احد القفز عنه، رجل كان من المؤمنين بما يفعلون، ولم يكن ابداً في لحظة من لحظات عمره الا مدافعاً عنيداً عن حقوق وثوابت وطنية، ارتضاها شعبناً لنفسه وكان له الدور الأكبر والأبرز في الحفاظ عليها، وقد قال: ليس منا وليس فينا من يفرط بذرة من تراب القدس، وظل يردد حتى وهو يغادر الى فرنسا، سيرفع شبل او زهرة علم فلسطين على أسوار القدس وكنائس القدس ومآذن القدس.

يقيني ان الرجل لن يموت في نفوس ابناء شعبه الأوفياء وسيظل حاضراً حتى وهو مسجى في مقر المقاطعة برام الله، حيث وقف يوماً من أيام الحصار.. وردد.. للقدس رايحين.. شهداء بالملايين.. وعندما اشتد عليه الحصار قال قولته المعهودة: يريدونني.. أسيراً.. أو .. أو، ولكنني اقول: شهيداً شهيداً شهيداً، وقد تحقق له ما أراد، ولكن بطريقة اختارها الآخرون.