نشرة دورية تعني بالترجمة عن الصحف والمجلات العالمية

نشرة مترجمة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر التوجيه السياسي

تصدر عن هيئة التوجيه السياسي والوطني

عام الخلود الأول

د. المتوكل طه

 

الزعيم الحقيقي هو الجيل بأكمله، وهو من يبدأ المرحلة ويؤسس لها، ومَنْ يكون على رأس الانعطافة وفي قلب موجة التغيير. هو من يبدأ الجديد بعد أن يظلّ القديم في وجدانه.

هناك دائماً مَنْ يُمثّل الجوهر، ومن ثم يعبّر عنه ، ثم يجسّده، ليتحول هذا الجوهر إلى حياة تُعاش وسلوك يُمارس. نحن نحب الرموز ولكننا نرغب أيضا في لمسها.

إن النقطة الفاصلة ما بين رغبات الجماعة، في أن تعبّر عن نفسها، وبين الشخص الذي يلتقط تلك الرغبة ويحيلها إلى فعل، هي بالضبط نقطة التحول من الهلام إلى الصلابة ، ومن الحلم إلى الحقيقة.

وفي حالتنا الفلسطينية ، فقد حرمنا طيلة قرن كامل عن أن نكون ، أو أن نتواجد، أو أن يشار إلينا جغرافياً أو ديموغرافياً، رغم الرعيل الأول من القادة والمفكرين والشعراء والأدباء ، ولكن ذلك لم يكن كافياً على ما يبدو لأن يُعتَرف بنا، كانت السياسة الدولية أقوى من رغبات شعب صغير ، فمزقت أرضناً ظلماًً وزوراً من أجل ظلم وزور ومَظْلَمةٍ أشد.

فلسطين كبيرة واحتاجت إلى مؤامرة كبيرة حتى تمحى أو تبّهت أو تمزق بشكل أو بآخر، حتى كان الجيل الذي عاش النكبة ، في مخيمات بلا اسم، ومنافي معتمة وقاتلة، ومعازل مقيتة ورهيبة، في مرحلة كانت مرحلة بحث عن الذات بعد الاقتلاع والتشظية، بهدف العودة والوحدة وتحقيق الذات ، وما كان ليتم ذلك دون ثورة تخلّص الشعب مما لحق به من أهوال.. 

لقد كانت فكرة الخلاص بالنسبة لهذا الجيل خشبة للنجاة من كل شيء سوى الوطن ، وكانت الثورة بالنسبة لذلك الجيل رفضا وكشفا وتعرية وفضحاً للظلم والاتفاقات المريبة، والأنظمة التي قامت على عجل، والأنظمة التي يؤسف لها، والأنظمة التي لم تعد قائمة، وتلك التي ما تزال. كانت الثورة ضد ما رتّبه العقل الخالص البارد، وما تواضع عليه النظام العالمي ذو الرأسين والقلبين والمكيالين، كانت الثورة ضد ما ارتاحت واستنامت إليه ما تُسمى بالشرعية الدولية الغامضة، غموض الشِعر فيما يخص غيرنا، الواضحة وضوح الشمس فيما يخص منطقتنا.

الثورة استدعت مضامينها وأشخاصها وأساليبها، واختارت أناسها، فكان ياسر عرفات ورهطه ، ثلة من الأولين حملت ضمائر الناس وقوانين التاريخ، امتشقوا الطيب والناصع من الآمال ، وشقوا طريقهم في ضيّق من الجغرافيا والسياسة والزمن.

ولكن الثورة فعل لا مثيل له، وأصحابها لا نظائر لهم، بلحظـة كلمح البصر يتحولون إلى أشخاص آخرين ، يصبحون حكاياتنا وأسرارنا وعطرنا وأيقوناتنا، يصبحون قلوبنا التي نحميها بضلوعنا، ويتحولون فجأة إلى أساطيرنا التي نرغب ونريد أن نخلدها حتى ولو لم تكن موجودة، الناس يحتاجون إلى أساطير دوماً، الأسطورة كأي شيء آخر ضرورية ومراوغة.

ياسر عرفات ذلك الرجل المُعجز، المدهش والمربك، والعصيّ على التعريف، قاد ثورة صعبة بكل مقاييسها، في زمنٍ أضيق من سمّ إبرة ومكانٍ مليء بالشوك والمسامير، ولكنَّ هذا الرجل استطاع أن يمد زمنه وزمن ثورته إلى رقم قياسي لم يكن من قبل.

ياسر عرفات، المرحلة الأهم في تاريخنا العربي، لأنه الشخص الأهم الذي تصدى للمشروع الصهيوني في المنطقة، ولأنه الشخص الأهم الذي حوّل مخيم اللجوء الى معسكر مقاتل، والتائه إلى فدائي، والمهزوم إلى شخصٍ ذي احتمالات.

ياسر عرفات الذي بدأ الثورة في ليلة باردة في العام 1965، نفسه الذي رحل ذات ليلة باردة في العام 2004 ولكن ليعلن بجثته ميلاد الشعب الفلسطيني الجديد.

طوبى لمَنْ لم يمنح محتله الشرعية أو الأمان أو الخاتَم الذهبي.

وطوبى للمرء يموت على قمة مجده محاصراً لم يتنازل عن كلمة اجترحها من دم الناس ودموعهم.

وطوبى للمرء يستشهد على الذروة كالشجر الحور ولا يموت على فِراش الندم أو العجز. 

وطوبى لرئيسنا الذي هو أبانا.

وطوبى لرئيس دولتنا الأولى، درسنا الأول في المحبة والإيثار والأمل.

لقد عرف كيف يقود وعرف كيف يموت محمولاً على ثلاث قارات وخمس جهات.

لم يُعقه انعدام الأرض ولم يمنعه ضعف الامكانات ولا خذلان الجهات جميعاً، بل ظلّ سادراً نحو الشمس حتى عرفته الأرض أكثر مما عرفت قضيته.

كان يعرف أنه أمة كاملة يتكيء على قيم عمرها آلاف السنين لم تكن مزاياه الشخصية فقط هي التي جعلت من ياسر عرفات ما جعلت منه إنها الثورة ومعجزاتها التي لا تنتهي.

إنه مثال للثائر النادر، ولو لم تحاربه وسائل الاعلام المهيمنة والمأجورة والمضللة والعدّوة لفاق في سيرته وانجازاته كل الثوار.

فخلال أربعين عاماً، ظل هذا الشهيد يلحّ على ضمير العالم، يدق الأبواب يشقّ الطرق ويذيب الثلج ويرفع الغبار، حتى كان له ما أراد، فقد اقتنع العالم بأن المشروع الصهيوني يجب أن يتوقف أو يتغير وأن أضاليل هذا المشروع لم تعد تنطلي على أحد وأن الشعب الفلسطيني شعبٌ يستحق الحياة والدولة والحرية والاستقلال.

الحق – ببساطة – يبقى ما دام هناك مَنْ يطالب به، الحق هو أن تطالب به وياسر عرفات هو الذي حالَ   دون أن تكون فلسطين أندلساً جديدة.

لا نريد أن نغادر غرناطة أخرى، لا نريد أن نكون غرناطة أخرى، ولا نريد أن نرى أبا عبدالله الصغير.. صغيراً مرة أخرى

ياسر عرفات جنّبنا أندلساً أخرى وأنشأ جيلاً لا يغادر غرناطة مهما كانت الأسباب ، لأن ياسر عرفات نفسه استعصم بعد الله  بحصاره بين جدران هشة ، فحاصر العالم كله.

الكبير يُحاصِر ولا يُحاصَر.. وخصوصاً أن القدس على مرمى نبضة قلب من حصاره.

الكبير يضع العالم أمام اخلاقياته ومثله.. وخصوصاً عندما تدهم المجنزرة لحم الرُضّع والطيور والشجر الصغير.

الكبير يصنع الكبير.. وخصوصاً إذا كانوا من نسل عوج بن عناق أبو العماليق الجبارين.

سيفخر الفلسطينيون وسيفخر العرب والمسلمون بهذا الرجل، الذي استشهد هناك، على أعلى قمة يتمناها الرجل الحقيقي.. قمة الموقف والكرامة والشجاعة والنبل والايمان.

وماذا بعد ذلك غير أن عاماً من زمن خلوده قد مرّ سريعاً..

وما هو اكثر من ذلك غير أن الزمن يثبت عافية خطاب الرجل، وصحـة ثباته على موقفه، وحراسته الثوابت والسقف العالي.

هذا هو رئيسنا الأول لدولتنا الأولى الذي ما زالت صورته فوق كل الرجال والعروش.

مقاتلاً وقائداً وأخيرا شهيداً لا مثيل له ، غير أنه يتناسل كل يوم من الأرحام.

فمَنْ سيشك بعد ذلك أن دولتنا لن تقوم وها هو ياسر الصغير ينبت من أزرار ياسر الكبير حاملاً صورة القدس الشريف وهاتفاً للعودة..

ومَنْ سيشك بعد ذلك ان هذا القرن هو قرن الفلسطينيين، ليس بالمعنى الجغرافـي أو الإثني، أو القُطـري ، ولكن بالمعنى المقاوم العنيد للثائر والثورة والأمل الذي لن يجفَّ، تماما مثل كلمات عرفات: "إلى القدس بالملايين" أو "يا جبل ما يهزك ريح".