نشرة دورية تعني بالترجمة عن الصحف والمجلات العالمية

نشرة مترجمة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر التوجيه السياسي

تصدر عن هيئة التوجيه السياسي والوطني

رجل للتاريخ: ياسر عرفات ومسيرة التاريخ

ناهض منير الريس *

 

 عرفت الأخ الشهيد ياسر عرفات للمرة الأولى في القاهرة عام 1956 وهو العام الذي التحقت فيه بجامعة القاهرة . وفي ذلك الحين تعرفت أيضا على الشهيد المرحوم صلاح خلف . وفي الحالتين تم التعارف في إطار رابطة الطلبة الفلسطينيين قرب ميدان مصطفى كامل بشارع قصر النيل وسط العاصمة المصرية . 

 ففي العقد الأول في أعقاب نكبة فلسطين كان الشتات يثقل على الضمير الوطني . وتنشأ رغبة دفينة عامة في الاتصال والتواصل . وكان الطالب بكلية الهندسة بجامعة القاهرة ياسر عرفات على رأس الذين بادروا إلى تأسيس رابطة الطلاب الفلسطينيين تعبيرا عن التعويض عن الشتات والسير نحو المستقبل وقد التم شعث الجيل الشاب من المتعلمين . كان التعويض عن الشتات توجها طبيعيا للسنوات القادمة من سعي الفلسطينيين . وكان توجها يحتاج إلى من يسهل ولادته . والتقط هذه البروق التي تلتمع في أفق المستقبل الطالب ياسر ، ومعه طالب آخر يماثله من نواح عدة وهو فتحي البلعاوي ، وأسسا الرابطة التي باتت بيتا للطلاب الفلسطينيين القادمين من غزة ومن الأردن ومن سوريا ولبنان . وكان كلاهما قائـدا بالفطرة ، يتمتع بطاقة حيوية غير عادية ، وبحماسة فلسطينية عالية وبمزاج عاطفي شديد الحرارة وقدرة على التهييج . وما زلت أتذكر كيف بكى ياسر عرفات وهو يخطب ويتكلم بحرقة عن فلسطين أمام الجمعية العمومية لرابطة الطلاب في ذلك العام . كذلك كان الشهيد صلاح خلف الذي ترأس الرابطة بعد ياسر عرفات شخصية دافئة وذهنا لامعا متوثبا ، وكانت قيادته الرابطة استمرارا مباركا لجهد المؤسسين . .

وقد تشكلت الهيئات الإدارية المتوالية للرابطة منذ تأسيسها من الإسلاميين غالبا ، وتمكن من الوصول إليها بعض اليساريين أحيانا . وبحلول الحقبة الناصرية وفشل العدوان الثلاثي صعد إلى الساحة الطلابية أنصار الاتجاه القومي ودخلوا إلى الهيئة الإدارية بالإضافة إلى الإسلاميين . وكان العام 1957 علامة فارقة إذ نجح في انتخابات الرابطة بالإضافة إلى أربعة إسلاميين أربعة قوميين في ذلك الحين، ومستقل واحد ترأس الهيئة الإدارية المكونة من تسعة أعضاء . واشتملت قائمة القوميين على الأخ فاروق القدومي والأخ عاصم خليفة والأخ زهير الخطيب وناهض الريس . ولما كان كل من الأخوين ياسر عرفات وصلاح خلف قد انتقل إلى العمل في دولة الكويت ، فقد احتفظنا لهما بلوحة في مقر الرابطة تحمل اسم ( رابطة الخريجين ) . وقد أوكل الأخ ياسر أمر العناية بها وتجديد المنشورات والأخبار التي تحملها للأخ محمد رمضان وهو أحد أفراد جيلهم  من الخريجين . وبفضل هذه النواة الصلبة التي أنشأها وحافظ عليها ياسر عرفات وصلاح خلف أمكن لنا نحن الجيل الذي أعقبهم أن نؤسس الاتحاد العام لطلبة فلسطين في الأعوام التالية لتجسيد الكيان الفلسطيني على مستوى الطلاب كما قلنا في نشراتنا في ذلك الزمن .

كانت الروح السائدة بين جيل الطلاب والشباب في مرحلة ما بعد النكبة هي روح التوثب إلى تجسيد الكيان الذي  هدمته نكبة عام 1948 ، وروح التطلع إلى الثورة والعمل المسلح من أجل استرداد فلسطين . ولا شك أن حرب التحرير الجزائرية ألهبت خيال الفلسطينيين ومثلت لهم تجربة بسالة وجرأة يقتدى بها . وقد انفعلوا بها أكثر من غيرهم ، لأنهم  كانوا يشعرون حتى قبل تصاعد الثورة الجزائرية أن حرب النكبة أخذتهم غيلة وغدرا ولم تتح لهم أن يفعلوا ما كان يتحتم فعله . ولذا نجد أن شعار الجولة الثانية هو شعارنا الأول في أولى مظاهراتنا بعد النكبة يتلوه شعار هاتوا السلاح وخذوا الرجال . ونجد أيضا أن الإقبال على العمل العسكري كان مشهودا في شدة التزاحم على التطوع في الكتائب الفلسطينية التي صارت فيما بعد نواة جيش التحرير الفلسطيني، وفي عمليات الفدائيين الذين عملوا تحت قيادة أجهزة استطلاع عربية، وجاءت الثورة الجزائرية لتعزز الإحساس بأن حرب التحرير الشعبية ممكنة عمليا مثلما أنها مرغوبة وطنيا .

لقد اختار ياسر عرفات قبل الجميع ممارسة دور الريادة والسبق والصدارة في الاضطلاع ـ على نطاق الشباب ـ بدور تنظيمي من شأنه تجسيد الكيان الشبابي عن طريق نظم عقد الطلاب الفلسطينيين الجامعيين في أهم عاصمة عربية ، واضطلع في تلك المرحلة نفسها بقيادة فرقة الجوالة التابعة للرابطة والتحق بالتدريب العسكري في الجامعة وأصبح ضابط احتياط وفقا لنظام متبع في الجامعات المصرية في ذلك الحين . وعندما أتأمل هذه الجزئية الصغيرة من حياة الرئيس عرفات يخطر لي أنه حدد طريقه المستقبلي قائدا للثورة وللشعب الفلسطيني مستقبلا .  

لا شـك أن ياسـر عرفات كـان، كبقية العباقرة، إنسانا بسيطـا من السهل أن يألف ويؤلف . ولكنه في صميم عمله الجوهري (  الذي هو ـ طبعا ـ تأسيس الثورة الفلسطينية وقيادتها وتأسيس السلطة الفلسطينية وقيادتها ) كان أشبه بظاهرة طبيعية جبارة قد تنسيك أنه إنسان من لحم ودم . ويتجلى ذلك بمجرد الملاحظة البسيطة المباشرة لدى محاولة تخيل عدد ساعات العمل التي أداها يوميا طوال مدة قدرها أربعون سنـة . فلو أن موسوعة الأرقام القياسية تحفل بالإحصاءات الجدية لوجب أن تدرج في صفحاتها الأمامية الرقم القياسي العالمي للمثابرة اليومية على أطول ساعات العمل . ونعتقد جازمين أن ياسر عرفات سيكون صاحب الرقم الفائز! فلقد كان يتأجج بوقود داخلي يشبه النووي بقوته واستدامتـه ! وبفضل ذلك الوقـود أوتي طاقة لا تبـارى على الدأب والنشاط ساعات طـوالا وأيامـا متواصلة وشهـورا وسنين ، يوما فيوما ، وشهرا فشهرا ، وسنة فسنة ، لا يستريح ولا يتسلى ولا يعرف الإجازة .

      من الإنصاف لذكرى ياسر عرفات أن نتحدث عن ذلك الوقود النووي الخاص الذي لم ينضب داخله والذي منحه ـ مثلا ـ طاقة ملحوظة مثيرة للدهشة في آخر مشهد من مشاهد حياته في المقاطعة قبل أن يغلقوا باب الطائرة عليه وينتقل إلى حيث لم نره بعدها ؟ هل لاحظنا كيف أصر على الإطلال من باب الطائرة وإرسال القبلات إلى المودعين ؟ ثم هل لاحظنا كم قبلة أرسل وهو مثقل بالمرض إلى درجة العياء ؟ ألم تكن قبلة واحدة تكفي ممن ينوء تحت ثقل الداء ؟ بلى . ولعل إنسانا غيره ما كان ليتوقف أصلا ولا ليرسل أية قبلة . ولكن الطاقة التي تتأجج فيه جادت جود رجل الماراثون وتدفقت بالكثير على غير توقع . هل نقول : وتدفقت دون حاجة إليها في تلك اللحظة ؟ كلا . فالقـائد ذو العاطفـة المتقدة يظل متقدا ، ويقوم بعمله القيادي المراد به إشاعة التفاؤل والتغلب على مأساوية اللحظة ووقعها الأليم في نفوس أولئك الرجال المحيطين المتوجعين من قسوتها  . ويخطر بالبال في هذا السياق أن ذلك مثال مصغر للغاية عن حياة ياسر عرفات ومأساة بطولته .

لقد تجلى لي أثناء اشتغال ذهني بتشكيل الرؤية الختامية وتقريرالانطباع النهائي بيني وبين نفسي عن شخصية وسر ياسر عرفات ، ومراجعة شريط ذكرياتي عنه منذ كنت طالبا في الجامعة حتى رأيت  مشهد جنازاته في فرنسا وفي مصر ، ولا سيما بعد مراقبتي تعبير الجموع الشعبية الفلسطينية عن ضميرها الجمعي يوم الدفن برام الله  ، تجلى لي أن ذلك الوقود الذي يولد الطاقة لدى ياسر عرفات هو عاطفة حب كبير نحو الوطن والشعب أدركها المواطن العادي البسيط البعيد عن دائرة الاتفاق والاختلاف مع الرئيس حول وقائع تفصيلية ، فجاء هذا المواطن يرد على هذه العاطفة بمثلها أو بأحسن منها . لقد أحب الناس ياسر عرفات لأنهم أحسوا إحساسا مرهفا أنه يحبهم. وليس أدل على حبهم له من كونهم سامحوه على ما أخطأ فيه ، مع أن الأخطاء لم تكن قليلة ولم تكن سرا على أحد . ومن الملاحظات ذات الدلالة في هذا الباب أيضا أن كثيرا من الرؤساء والشخصيات الرفيعة التي حضرت جنازته في القاهرة كانت تكن له المحبة وترتبط به بهذه العلاقة الشخصية الدافئة التي نجح في نسج خيوطها معهم من خلال الاتصال  المباشر السابق .

     وقد يقول أناس إن ياسر عرفات كان إنسانا عمليا لا يحب ولا يكره وإنما يتصرف من واقع حساباته الخاصة . فلا تعدو مودته وفق هذا التصور أن تكون نوعا من السياسة والدهاء . ويبدو لي أن أصحاب هذا الرأي الثاني لا يفطنون إلى التفريق بين الغالب على الشخصية وبين الاستثنائي الطـارئ فيها . وعندما نتحدث عما أطلقنا عليه عاطفة الحب الكبير وجعلناها العنصر الذي كان يمد ياسر عرفات بالطاقة والمثابرة والحفاظ على الغرض فلا ينبغي أن يفوتنا أن ثمة في شخصية ياسر عرفات منظومة من العناصر الدفاعية والوقائية التي طورها عبر تجربته بعد احتكاكه بالناس والمواقف واكتشافه أن الثقة قد توقع في محاذير ليست بالحسبان . فهذا الرجل المتقد بالعاطفة والانفعال الجامح والمحب للناس وللاجتماع الإنساني كان في الوقت نفسه شديد الحذر والتشكك . وكلما تقدم به العمر كان يغدو أكثر حذرا وارتيابا . ومن هنا اختلطت مواقفه ما بين اتخاذ  موقف الانفتاح على الآخرين أحيانا واتخاذ موقف المداراة أحيانا أخرى واتخاذ موقف الانغلاق والصد أحيانا ثالثة لدى أية إخبارية كيدية ضد أحد الناس . ولذلك أشكل الأمر على البعض كما قدمنا واختلطت عليهم بواعثه وأسبابه .

     إن ذلك الوقود القوي الذي تحدثنا عنه ، بطاقته المحركة والدافعة ، قد تساند مع مجموعة المواهب المتمايزة التي تمتع بها الرجل الفذ . فهو حاد الذكاء ، دقيق الملاحظة ، عميق الاستيعاب ، فائق المرونة ، واسع الحيلة ، حاضر البديهة . ثـم هو قـوي الإرادة ، مثابر على العمـل ، واثق من نفسه ، فعال في أية بيئة يكون فيها ، مبدع في اقتناص الفرصة اللازمة لانبعاثه بعد كمون أو تغلبه على صعوبة سابقة .

      كان يحلو لياسر عرفات أن يقص على مستمعيه كيف قال لهوشي منه قائد الثورة الفييتنامية ذات يوم : لنا الشرف أن نلتقي ونتعلم من قائد أعظم ثورة في العالم .  فرد هوشي منه قائلا : بل أنتم أعظم ثورة في الحقيقة لأنكم تديرون الثورة في منطقة النفط وهي الأشد حساسية في العالم !

     وفي مراجعتي الختامية العامة لحياة هذا القائد التاريخي الكبير أرى لزاما علي أن أشير بإيجاز في هذا المقام إلى أثر قيادته على القضية الفلسطينية في زمنه . وهنا نقول إن قيادة ياسر عرفات كانت الرافعة التي نقلت طلائع شعبها الفلسطيني من مخيمات اللجوء إلى معسكرات الثورة والتدريب . وكانت الرافعة التي نقلت الثورة الفلسطينية من نطاق المحلية إلى نطاق العالمية . وكانت الرافعة التي نقلت الثورة الفلسطينيـة من المنافي والمهاجر إلى داخل الأرض المحتلة . وكانت الرافعة التي وضعت أسس دولة فلسطينيـة لم تكتمل ولم تتوطد ولم تتأسس كما ينبغي أن يكون الأساس !

       لقد دفع ياسر عرفات مسيرة التاريخ الفلسطيني إلى الأمام وتفاعل منذ شبابه مع تيار التاريخ واتجاهاته . ففي العقد الأول بعد النكبة قاد الجيل الجامعي في رابطة الطلاب وفرقة الجوالة . 

وفي العقدالثاني كانت التجمعات الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية وفي بلدان الجوار العربية حبلى بحلم الكفاح المسلح واستئناف البحث عن الحق الفلسطيني الضائع . وقد حركت ثورة الجزائر الظافرة أشواق الفلسطينيين وحرضت انخراطهم في الأفعال الملموسة . فكانت الثورة الفلسطينية بدورها جنينا لا بد أن يولد . وكان ياسر عرفات على رأس أولئك الذين سهلوا ولادة هذا الجنين وارتبطوا بميلاده حياة أو موتا .

   وفي العقد الأخير من القرن العشرين ، بعد ثلاثين سنة من نضال الثورة الفلسطينية ، بدا لياسر عرفات أن موازين القوى العالمية أخذت تتغير وأن صورة العالم اختلفت اختلافا خطيرا وأن مرحلة الكفاح المسلح الفلسطيني سوف تخلي مكانها لمرحلة المفاوضات مع الأمريكيين والإسرائيليين . ولم يتردد قائد الكفاح المسلح في  الوقوف على رأس أولئك الذين سهلوا ولادة مرحلة المفاوضات على أمل الوصول إلى الدولة الفلسطينية . وقد عمل على تأسيس الدولة الفلسطينية وتوفير أسباب الحياة لها سياسيا وإداريا . فما مدى النجاح الذي حققه في هذه المحاولة ؟ وأين أخطأ وأين أصاب ؟ ولماذا وصلنا إلى الحالة المزرية التي بلغناها اليوم ؟ هذه أسئلة لا يجب أن تكون لدينا غضاضة في الإجابة عليها دون أن تحملنا عظمة الذكرى على تجاهل هذه الأسئلة أو اللجوء للمجاملة أو المداورة في الإجابة عليها . وقبل أن نقول ما ينبغي قوله لصالح المستقبل والإصلاح والحقيقة نمهد بالقول إن ياسر عرفات ربما فاق أي رئيس في العالم فيما توفر له من صلاحيات مالية للتوقيع منفردا على أوامر صرف طيلة أربعين سنة . وقد منحه ذلك قوة بالإضافة إلى قواه . وقد استخدم المال للأغراض السياسية ومع أن المرء يعارض السلطة المطلقة بشدة من حيث المبدأ ( وفي مقدمة ذلك السلطة المالية ) ، فعلينا إنصافا للرجل أن نتذكر أنه قضى حياته رئيسا ببدلة الكاكي والحطة والعقال ، لم يغير ولم يبدل هذا الزي . وهو لم يتناول طعاما أفخر مما يتاح لمتوسطي الدخل من الناس ، ولم يسكن في قصور منيفة ولا حدائق معلقة ، ولم ينعم بحياة أسرية مستقرة . ولم يعش لما يعيش له الرجل العادي ولم يسع للمباهج التي يسعى لها الرجل العادي .ونحن ندرك تماما أن من الواجب صون قيمة ياسر عرفات وسمعته ومكانته في نظر الرأي العام العالمي . لأن ذلك كله ثروة وذخر للشعب العربي الفلسطيني . ويكفينا دلالة وبرهانا على ذلك أن الدوائر المعادية ما انفكت بعد أن أصبح ياسر عرفات في التراب وانعدم خطره عمليا تلفق الأكاذيب المروعة السافلة لتشويه صورته وتدمير ذكراه . ولكن إجلالنا لهذا القائد العبقري شيء , وتقييمنا قيمة عمله الباقي بين ظهرانينا شيء آخر . وعلينا أن نقول بلا تردد إن أسلوب ياسر عرفات في تأسيس السلطة الوطنية حمل بصمات عبقريته في كل ما يختص بالنواحي السياسية والعلاقات الدولية أما بالنسبة إلى نواحي الإدارة والتأسيس الإداري فكان الأمر على النقيض تماما . فقد أسس الإدارة الفلسطينية بما يناسب إحكام قبضته على الحكم وليس بما يضمن حسن الأداء وكفاءته . واعتقادي ، على قدر ما أعرف ، وربما كان غيري يعرف أكثر بكثير ، أن ياسر عرفات وصل بينه وبين نفسه في المراحل الأولى من الثورة إلى استنتاج بأن أصحاب الرأي والمثقفين والذين يقولون لا حين لا تعجبهم الأمورهم أناس متعبون ولا يمنحون القائد الولاء الكافي فضلا عن أن كلامهم أكبر دائما من أفعالهم . ويقول الذين يعرفون ظروف النشأة في الكويت إن الدائرة الأولى من تنظيم فتح تألفت من شخصيات أكثر ثقافة وعمقا من ياسر عرفات وأنهم لم يستطيعوا التعايش معه . ويبدو أن كلامهم حق ولكن علينا أن لا ننسى أن ياسر عرفات كان يفوقهم حركية ومغامرة وتكريسا ، وهي أمور كانت مرحلة التأسيس الثوري تستلزمها بشدة .

 ولكن مهما يكن الأمر في مرحلة الثورة فإن أسلوب أبي عمار في تشكيل الهيكل الإداري للسلطة الوطنية الفلسطينية بعد عام 1994  وفي تسكين الناس داخله كان خطأ هائلا وضخما كما تكون أخطاء الكبار وهو السبب الأول في فشل الإدارة الفلسطينية وفي تخلفها ، وفي الانفلاش والانفلات الذي يوشك أن يقضي على إنجازات الرجل الكبير ، والذي نعاني الأمرين منه اليوم .

فهي إدارة بلا مناهج وبلا كفاءات وبلا محاسبة . وهذا أقل ما يمكن قوله في هذا المعرض . وهناك المزيد مما يجب قوله : وذلك هو انعدام الثواب والعقاب في مناسباتهما ، بل وأحيانا مكافأة المسيء ومعاقبة المحسن . وقد كان ياسر عرفات يعول على إقامة التوازنات من أجل الإمساك بجميع الخيوط . وهي سياسته في الحكم والسلطة وظل يمسك بالخيوط فعلا طالما بقيت يداه قويتين ولكنهما ضعفتا وإذا بمماليك السلطة الوطنية الفلسطينية يستقلون تدريجيا بولاياتهم ويرثونه في حياته ولا يتورعون عن الانقلاب عليه والعصيان جهارا

لقد ترك ياسر عرفات وراءه فراغا هائلا . لأنه كان كما قال المرحوم فيصل الحسيني ذات مرة " الوحيد الذي يستطيع أن يصحح ما ارتكبه من أخطاء " وأضاف مفسرا : " فيه العلة وفيه الدواء ".

كان ياسر عرفات بعد كل حساب رجلا للتاريخ . والتاريخ سيحكم عليه . وسيحفظ ما يبقى منه وما يضمحل سريعا أو بطيئا بمرور الأيام والليالي . وربما سيحكم عليه من خلال مقارنته بخلفائه وأعمالهم وليس من خلال أعماله وحسب !!  

ــــــــــــــــــ

* النائب عن مدينة غزة