نشرة دورية تعني بالترجمة عن الصحف والمجلات العالمية

نشرة مترجمة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر التوجيه السياسي

تصدر عن هيئة التوجيه السياسي والوطني

عكيفا الدار
عديت زرطال
أسياد البلاد
المستوطنون ودولة إسرائيل
1967 – 2004
ترجمة : عليان الهندي


فيما يلي ترجمة لأجزاء من كتاب أسياد البلاد لمؤلفيه المذكورين أعلاه وذلك بهدف وضع المستوطنين تحت الضوء وفقاً للكتاب ولاطلاع القارئ على جوانب وتفاصيل هامة لها دلالاتها.
آفـاق


المقدمة
شاهدنا من كابينة الطائرة الخفيفة المحلقة في سماء الضفة الغربية الاراضي الجبلية والتلال الممتدة من شمال السامره الخضراء حتى الجنوب تجاه القدس وجبال يهودا التي اخذت اعشابها تميل إلى الاصفرار والتلال المنحدرة إلى الشرق نحو نهر الاردن والبحر الميت. وكان النظر الطبيعي يتحدث عن سماء وصحراء وبحر، وهي مناظر جميلة وخلابة، كثيرة المناظر وقليلة السكان المنتشرين في تجمعات صغيرة مثل عناقيد العنب. وبدت الابنية في المناطق المذكورة كأنها مرتبطة ببعضها البعض ويحتل كثير منها قمم الجبال كمواقع صغيرة، منتشرة هنا وهناك في مناطق شاسعة وخالية. أما الطرق فكانت مصبوغة باللون الابيض• والشوارع المعبدة التي تم شقها في الصخور الجيرية، تمتد من مستوطنة إلى أخرى. وعلى اطراف الشوارع امتدت ابنية تربط مستوطنة بأخرى. وعندما تنخفض الطائرة نشاهد بوضوح مناظر المستوطنات المكونة من بيوت خشبية اسقفها من الكرميد الاحمر، كما شاهدنا بركاً زرقاء اللون تحتوي على نباتات غنية منتشرة هنا وهناك. المناظر المذكورة تختلط بمكعبات حجارة صغيرة الحجم مرتفعة عاليا بدا أنها برج لأحد المساجد الذي بني داخل حقول القمح وكروم الزيتون. وفجأة نشاهد مستوطنة اكبر، ربما مدينة، تضم خليطاً منوعاً من الابنية غير المرتبة والممتدة حتى منحدرات الجبل. وفي المحيط أراضِ ذات طبيعة وعرة وقطع أراضٍ مزروعة. كما شاهدنا من كابينة الطائرة الخفيفة المحلقة عمق الالوان التي تروي قصصا حول السلطة الايديولوجية، والمخطط الكبير للوجود اليهودي على الارض الذي يحرك التضاريس ويصنع الاحداث الميدانية. وهناك تقع دولة المستوطنين التابعة للاحتلال الاسرائيلي. وفي المقابل تنكشف امامنا المأساة التي تحدث على هذه البقعة من الارض، حيث يمارس ضد سكانها وارضها الفصل والتمييز والهدم وسرقة الاراضي وخرق القانون. وكل ذلك يختلط بالمنظر الخلاب الذي نشاهده. وبدا أن النتؤات المذكورة المكونة من مستوطنات يهودية وضعت بشكل عشوائي، تبرز اهميتها مع المخطط الكبير والمقصود المكون من المواقع الاستيطانية التي أقيمت في "أرض الآباء" على حساب ملايين البشر من الطرف الآخر، فاصلة بذلك كامل الجسم الوطني الفلسطيني عن بعضه البعض.
بعد فترة وجيزة تحل الذكرى الثامنة والثلاثون على الحرب التي بدأ في أعقابها اليهود سكان إسرائيل الاستيطان خارج حدود دولتهم، خلافا لما ينص عليه القانون الدولي الذي يمنع الدولة المحتلة من نقل مواطنيها إلى مناطق محتلة وإسكانهم فيها . أما إسرائيل البالغة من العمر 56 عاماً، منها تسعة عشر عاماً كانت فيها دولة ذات سيادة خالية من المرض الخبيث المسمى احتلالاً. ونتيجة لذلك فإن الغالبية العظمى من الملايين الستة ونصف إسرائيلي لم تعرف واقعاً سوى الاحتلال، شانهم في ذلك شأن الفلسطينيين الذين يبلغ عددهم ثلاثة ملايين ونصف. وأسقط الاحتلال العسكري المتواصل والمستوطنات التي تخلد هذا الاحتلال الحكومات الإسرائيلية، ووضع الديمقراطية والثقافة السياسية الإسرائيلية امام الهاوية، لأن الاحتلال غيرّ من الاساس المجتمع والجيش والاقتصاد واللغة وحركة الجسد والتاريخ والقيم الاخلاقية ومكانة إسرائيل الدولية. فالدولة التي نمت إثر الكارثة التي حلت بيهود أوروبا، ومنها استمدت شرعيتها الكاملة ووجودها وشرعيتها السياسية والعسكرية في بداية طريقها، أصبحت في اعقاب الاحتلال المتواصل والمستوطنات التي تمنع تحرر دولة إسرائيل، دولة محطمة من الداخل نتيجة الخلافات الداخلية الشديدة، لقد أصبحت دولة من السهل كرهها .
ويبدو أن حركة الاستيطان اليهودي حققت نجاحاً جغرافيا وسياسياً هائلا، فقد انتشرت عشرات المستوطنات في كل زاوية وفي كتل استيطانية كبيرة حول القدس، وفي المنحدرات الغربية والشرقية لجبال السامرة وعلى قمم التلال. وزرعت المستوطنات والمواقع الاستيطانية في غور الاردن وجبل الخليل وغزت الاحياء اليهودية قلب مدينة الخليل وغيرها من مدن الضفة الغربية، ووصلت حتى مداخل نابلس ورام الله، مخلفة وراءها حالة من الفوضى الإنسانية والهندسية المخيفة. وسيرافق كل محاولة لوضع حدود بينها للفصل بين الشعبين صراع مرير والآم صعبة. وخلال احتلالها أقامت اسرائيل 120 مستوطنة "قانونية" و"مواقع استيطانية غير قانونية" ومدارس دينية ومعاهد لإعداد الجنود قبل التجنيد الإجباري، ومناطق صناعية ومحطات بنزين ومحاجر، وأقيمت كلية كبيرة في وسط السامره يدرس فيها طلاب من الخط الاخضر بما في ذلك العرب الإسرائيليون بظروف وشروط لا مثيل لها في اسرائيل .
ومع ذلك، وهو ايضا نظرية ممكنة، ففي نهاية عام 2004 عاش في هذه المناطق ربع مليون يهودي ،معظمهم في المستوطنات الكبيرة مثل ارئييل وكرني شمرون ومعاليه ادوميم وهم أقلية قليلة تبلغ نسبتها 10% من مجموع السكان الفلسطينيين في المناطق، وأقل من 5% بالمئة من السكان اليهود في اسرائيل. الأرقام المذكورة تبدو مفاجئة مقارنة مع القوة التي يتمتع بها المستوطنون وتواجدهم المكثف في جدول الاعمال الاسرائيلي. بعد سبعة وثلاثين عاما من الاستيطان اليهودي في المناطق التي تقع خارج حدود إسرائيل فإن الاراضي المحتلة لم تمتلئ باليهود . وحتى من وجهة نظر مراقب من الطائرة أو من شباك السيارة المتحركة في شوارع الضفة، فإن الانطباع هو أن هذه البلاد فارغة نسبياً وكلما ابتعدنا عن المستوطنات المطوقة من شمال وجنوب العاصمة، ومن المستوطنات الواقعة على الخط الاخضر لمنطقة هشارون (منطقة وسط اسرائيل). ويتعزز الانطباع المذكور عندما علمنا، أن غالبية المستوطنات إن كانت قديمة تبلغ من العمر عشرات السنين أو أكثر أو مواقع استيطانية لها من العمر عدة اشهر، هي مستوطنات ضعيفة وحتى مهجورة تنقصها قوة الحياة لتعيش وحدها، رغم محاولة ساكنيها اظهار المناعة والاصرار. وشبكة البنية التحتية التي تربط بينها مثل الشوارع والكهرباء والمياه وقوات الامن الكبيرة المحيطة بالمستوطنات هي بلسم حياة المستوطنات وسر قوتها. وإخراج القوات من البرج المتمترسة فيه يحولها إلى أبراج لألعاب أوراق "الشدة". وفي اليوم الذي يملك المجتمع الإسرائيلي ،إذا ملك، القوة النفسية لإعادة الدولة إلى التاريخ وتأسيس وجوده ومكانته في المجتمع الدولي، فإن المستوطنات ستسقط واحدة تلو الأخرى. ولمواجهة مثل هذا اليوم تعد مجموعات من المستوطنين نفسها في اماكن مختلفة من الضفة الغربية خاصة في المواقع الاستيطانية الجديدة. وهو الامتحان الذي سيواجهه من أعلنوا عن توقف عمل إسرائيل كدولة ديمقراطية، الذين خرج منهم ومن الجو الفكري والأيديولوجي التنظيم اليهودي السري في بداية الثمانينيات، وقتلة رابين عام 1995، ومنهم سيخرج المدمرون الذين يحضرون للكارثة القادمة. علما أن مشروع الاستيطان هو مشروع مشترك للمستوطنين ودولة اسرائيل، والانفصال عن المستوطنات سيكون قصة المستوطنين ضد دولة اسرائيل .
وفي غضون ذلك، فإن الخوف والعنف هما لغة الحديث والصمت عند المستوطنين. وفي سنوات 2003 – 2004 وهي السنوات التي ألفنا فيها الكتاب، وتجولنا في المنطقة للالتقاء مع المعنيين في اماكن سكنهم، ثمة أيام صعبة على المستوطنين, فالحرب المخيفة التي اندلعت في اكتوبر عام 2000 هي حرب على المستوطنات. والثمن الذي تدفعه دولة اسرائيل والمستوطنون هو ثمن غير محتمل على مدار الوقت, وهم يعلمون ذلك، فالعالم الآمن والعادل الذي اقيم للمستوطنون لم يعد عادلاً ولا آمنا بالمرة. وأصبحت كلمات، مثل خراب البيت أو ازمة بسيطة وحرب بدون مصر وحتى آخر قطرة دم كما يقولون، يومية ومحتملة. وكلما ازداد الخوف ازداد معه اليأس والعنف والشعور بالضحية. لكن وراء كل ذلك توجد حياة وبشر, وجيل ثانٍ وثالث في المستوطنات، فالحياة الحيوية تتدحرج اليوم بين الاستمرار او التوقف، فعلى سبيل المثال مستوطنة شفي شمرون، التي أُسست قبل ستة وعشرين عاماً في مكان قريب من مدينة السامرة القديمة تسكنها مئة وخمسون عائلة من أصحاب المهن الحرة، ويقع في وسط المستوطنة مسجد مهدوم، وغير بعيد عنه كنيس غير مكتمل محاذٍ في أحد جوانبه لموقع عسكري يقع داخل المستوطنة تقريباً، وفيها مدرسة دينية تقع في الجانب الاخر. المستوطنة الصغيرة المذكورة والمعتدة بنفسها ستتفكك في اليوم الذي يقرر فيه الجيش الخروج من حدودها. وفي الشقة الفارهة " لدينا يشرون " يوجد شباك زجاج مشقق والكنبة مليئة بالثقوب، وفي وسطها ثقب من رصاصة بعد أن تسلل مخرب في شهر ايار عام 2004 في وسط النهار إلى المستوطنة واطلق النار على بعد عشرات الامتار. النار لم تصب أحداً، لكن الزجاج لم يصلح ويقولون إنهم يحتفظون به للذكرى، ولكي يكون شهادة على التهديد الدائم على البيت من قبل العدو الذي لا يعرف الحدود. أما دينا فهي عاملة اجتماعية وموظفة رفيعة في خدمات الرفاه المنتشرة في المستوطنات، وزوجها فهو قائد المستوطنة في إطار الدفاع الشامل، ويعمل أحد ابنائها ضابط مدرعات في الجيش النظامي. ويمكن القول أن عائلة يشرون تعتبر نموذجاً خاصاً ليس فقط في اعتماد المستوطنين على الوظائف الحكومية ، بل على الطريقة التي يعمق فيها الجيل القادم جذوره في المستوطنات وفي القطاع العام. وفي ظهيرة يوم السبت تحضر وجبة "المفتول" لاهل البيت, وتتحدث عن الحاجة المفهومة من ذاتها وهي محاربة الارهاب حتى يوم القيامة إذا تطلب ذلك من دون يأس. وتضيف: في عام 1948 كان الوضع اكثر صعوبة ونحن لن ننتقل من هنا، هم الذين يجب أن يتحركوا فهم ليسوا شعباً، ولا يوجد شعب فلسطيني. وتضيف دينا من هذه المستوطنة خرج الجيش الاسرائيلي للقيام بعملية "السور الواقي" ضد مدينة نابلس عشية عيد البيسح. وتضيف، لم يكن مع الجنود أي طعام، لقد قامت نساء شفي شمرون وبمساعدة من نساء كدوميم بإعداد الفي وجبة غذاء للجنود، وهو تعايش لفائدة الطرفين فعندما يذهبون الى الحرب فهم يعلمون من أجل من يحاربون.
الاحتضان المتبادل بين الجيش والمستوطنين الذي نبحث فيه مطولا ظاهر للجميع, وفي أحيان أخرى غير ظاهر. فأرض الفصل تظهر في مفترقات الطرق المؤلمة جدا وفي الحواجز الثابتة أو المتحركة، التي يرابط فيها جنود منهكون وكسالى ومكفهرون، في حين تزداد صفوف السيارات الفلسطينية طولا على جانبي الحاجز، أما نحن فنلتف بالسيارة الاسرائيلية مسرعين ونحيي الجنود بخجل، أما المستوطنون أسياد البلاد فهم غير خجلين بالمرة من التجول دون إزعاج بصفوف سيارات تختلف عن السير الماضي، أو يسيرون بشوارع منفردة، شوارع يهودية. ولا يمنع وجود جنود أو أفراد شرطة من بالتنكيل بالسكان المحليين – الفلسطينيين. وفي الأعلى تلة وعرة يقع على منحدراتها الموقع الاستيطاني "حفات ماعون" في جبل الخليل. وفي يوم ربيع عام 2004 يتضح برنامج السيارات العسكرية، فقد كنا مسافرين في اعقاب جيب عسكري إلى حقول المراعي التي تحولت إلى ساحة معركة بين الاشرار اليهود الذي يسمون أنفسهم "شبيبة التلال" وبين السكان الفلسطينيين الفقراء، الذين كانت المنطقة موقعا لحياتهم وحياة أبائهم منذ مئات السنين، وقبل وصولنا بساعة أجبر المستوطنون بطلقات النار والتهديدات سكان خربة طوانة الذين أرادوا رعاية قطيعهم على التشرد. شخص ملتحٍ وعلى رأسه قبعة وعلى كتفه بندقية كبيرة، ويعمل مركزا للأمن المتنوع يطلب من ضابط الشرطة طردنا فوراً من المكان، إذا لم يتقيد بذلك، يهدد الرجل، بإنه سيستدعي زملاءه. ضابط الشرطة هز كتفيه واعتذر وطلب أن لا نضغط عليه لأن علينا تنفيذ أوامر المستوطنين. وفي غضون ذلك كان هناك شبيبة ذوو ذقون خفيفة والشابيل (اللباس الخاص بالمتدينين اليهود) تنسل من بناطيلهم جالسون على الجدار ويضحكون. وتقول الشرطة إنهم معتقلون بتهمة مهاجمة الرعاة، وبعد عدة أيام علمنا من الشرطة أن المحكمة أفرجت عنهم جميعا.
وغير بعيد من هناك تقع "كريات أربع"، مستوطنة محاصرة، يخرج سكانها ويدخلون إليها بطرق محمية ومزروعة بالحواجز العسكرية - احتلال وخوف يستخدم كخليط. ويبدو انه لا يوجد احتلال مفرح ولا جميل. فالجرح الداخلي عميق، لكن آثاره بادية على الجلد، حيث يشاهد اليهود الذين يقدسون الارض في كل مكان في المنطقة، وهم الذين أقسموا أن هذه الأرض هي فقط مكان معيشتهم، وأنهم لن يتحركوا منها ابداً ويعيشون فيها بنوع من العزلة مسببين قباحة للمكان، وكأن كل شئ مؤقت أو أنه سيتم تفكيك الاعجاز غداً أو بعد غد. وحتى النصب التذكاري وقبر باروخ غولدشتاين الواقع على طرف الحديقة العامة التي تحمل اسم الحاخام المحبوب غولدشتاين مئير كهانا تبدو مهجورة.
وترسل مستوطنة كريات اربع، ورغم الابنية المرتفعة والابراج، رسالة ضعف فهي فارغة, وعلى غير هدى وأصبح كثير من سكانها -صيف 2003- لا يلبسون القبعات الدينية، أما شابات المستوطنة فهن مكشوفات الصرة ويتجولون في شوارعها، وسيكون هؤلاء "الباحثون عن سكن محسن" أول من يترك المستوطنة عندما تتوفر فرصة مغرية اكثر. وعلى بعد ربع ساعة من المستوطنة يقع الحي اليهودي في قلب مدينة الخليل العربية، قلعة مغلقة بنيت داخل مدينة مقتولة. لغة الكراهية والترقب والعنف هي التي يتحدثون بها هنا. وفي وسط الحي اليهودي متحف يتحدث عن مذبحة عام 1929 - ياد فيشم الخاص بالمستوطنيين، فظاعة المذبحة القديمة موضوعة على الجدران بخليط مزعج، إنه تخليد وتسييس للموت .
أما جنبات الطرق في جنوب الضفة فهي مزروعة بالاعلانات التي تطالب بالاستيطان في البلاد وحبها مثل "مدرجات الخليل, وشقق في كريات اربع وفيلل في إفرات، وشقق مع حدائق ونصف ساعة من القدس". وتحمل الاعلانات خيال المتعهدين, فلغة البيع متشابهة في كل الاماكن. وفيما يتعلق بمدينة إفرات "شوق أن تأتي لإفرات " التي تقع في الطريق إلى بيت لحم، فهي مستوطنة برجوازية تتمتع بامتيازات اكثر من المستوطنات الموجودة في الخليل، فشققها كبيرة وساحاتها مليئة بالأشجار والشارع السريع الذي يربطها مع جنوب القدس يحولها من ناحية عملية إلى عنابر نوم تابعة للعاصمة, وسعر الشقق الكبيرة في إفرات هو نصف ثمن الشقق المشابهة في القدس. والدعم المقدم لها يدفعه منذ سنوات مواطنو إسرائيل. وعلى بعد عدة كيلوميترات من إفرات يوجد الموقع الاستيطاني الجديد "غفعات هدغان"، البنت الشاذة للمستوطنة الأم, ما هي إلا موقع استيطاني صغير منغرس بين اضلع بيت لحم يوجد فيه من 10–15 بيتاً مؤقتاً مهجوراً يستخدم كمدرسة دينية صغيرة، وسكانه تلاميذ المدرسة وأبناء عائلاتهم، وبجانب الموقع الاستيطاني يوجد موقع عسكري. الارض الصخرية التي يقوم عليها الموقعان الاستيطاني والعسكري مشبعة بالسولار وتخرج من المكان ريح سيئة -وهل للاحتلال ريح؟. طريقة توسع وتمدد افرات وأبنيتها البعيدة، غفعات هدغان وغفعات هتمار، لا تهدف إلى سرقة أكبر مساحة ممكنة من أراضي الفلسطينيين سكان المنطقة فقط، بل تهدف إلى تقييد توسع بيت لحم وخلق احتياطي من الاراضي للتطور الطبيعي لافرات. وفي مكان ليس بعيدا عن إفرات شق الجبل بشارع سريع من القدس إلى منطقة "تقوع ونيكوديم". ويعتبر هذا الشارع من أغلى الشوارع في اسرائيل إن لم يكن أغلاها على الإطلاق إذا أخذ بعين الاعتبار عدد المسافرين الذين يستخدمونه. في هذا الاطار، يقول الناشط في حركة السلام ألان درور إتكس "في كل مرة أحضر إلى المنطقة أشاهد حقلاً آخر دمر أو اقتلع كرم زيتون. وعلى أية حال فإن "كل المنطقة من القدس إلى الخليل ممزقة بين الجدار الذي يقطعها بالطول والعرض وبين الشوارع الفاصلة التي تقطعها".
انطلقنا بالسيارة في احد ايام الصيف الاخير لعام 2004 إلى مستوطنة "معاليه لبونة" حيث شاهدنا في إحدى الزاويا شجرة زيتون تقبع تحتها سيارة عسكرية ذات انتين مرتفع ومموهة بشبكة تمويه. ومعاليه لبونة هي مستوطنة منعزلة على رأس جبل يطل على كل المحيط، فالمنظر الطبيعي خلاب والهواء نقي، أما كروم الزيتون فقد اجتث بعضها من الارض وأعيد زرع القليل منها. وتمتد المستوطنة من جانب شارع قاطع السامرة من الغرب إلى الشرق. والبيوت في معاليه لبونة فارغة ومهجورة وتشير إلى مجد مضى، فالشوارع خراب مليئة بالأوساخ، والحدائق المنزلية لم يعد من يعتني بها. فالمستوطنة تهجر في النهار لان معظم ساكنيها يعملون في أماكن عمل أخرى. وخلال جولتنا في المستوطنة إنضمت الينا مستوطنة شابة اسمها موريا عوزري، وهي ابنة موشيه ومريم، المحسوبين على جيل المؤسسين. قبل اربع سنوات صرحت عوزري لصحيفة تصدر في القدس، إذا جاءوا لإخلائها فإنها ستكبل نفسها في البيت وستسقط معه. أما اليوم فهي تعترف بأنها تفكر وتعتقد بطريقة أخرى، وإذا اتخذ قرار ديمقراطي بالاخلاء فإن ذلك بالنسبة لها سيكون قرارا صعبا ومخيفاً لكنها ستخلي بهدوء. وتضيف أن الغالبية العظمى من المستوطنين سيحذون حذوها . وعلى الجبل المقابل، في الجهة الأخرى من الغور الممزق، تطل علينا مستوطنة "عيلي" المنفصلة التي تسير مثل جرثومة الاميبا. فإقامة المواقع الاستيطانية تبدأ بعد تمزيق سياج المستوطنة الاصلي بهدف الانطلاق نحو المواقع الجديدة، حيث يضعون العربات وينطلقون إلى مكان أخر. وبهذه الطريقة أقيمت المواقع الاستيطانية "عوفيدت وحي هيوفيل ونوف هريم وبلجي ميم وتلة افريون وهكارون التي تعتبر تابعة لمستوطنة عيلى" .
ومن هناك توجهنا شمالا إلى غرب نابلس حيث توجد مستوطنة كدوميم وهي مستوطنة كبيرة ورئيسية وتتبعها المواقع الاستيطانية "كدوميم دروم وغفعات راشي ومتسفيه كدوميم وغفعات شليم ومتسفيه يشاي والخ". وتمتد المستوطنة على مساحة واسعة جدا ويبلغ عدد سكانها 6000 نسمة، وتصل إليها حافلات كثيرة تربط كدوميم بدولة إسرائيل. وهناك حافلة خاصة تربط المستوطنة الكبيرة مع كل المستوطنات التي تعتبر من بنائها. وفي مقبرة كدوميم لوحدها - رمز المستوطنين وسيطرتهم الأبدية- يوجد أربعون قبراً، وهي مستوطنة صغيرة بحد ذاتها. ويوجد في هذه المستوطنة مركز كمبيوتر ومدرسة دينية متوسطة ومتحف وكنيس، وتسكن بعض العائلات الغنية والكبيرة من أوساط المستوطنين في المستوطنة. وتقول المرأة القوية التي تدير هذه المستوطنة، دانييلا فايس، إنهم يصنعون من كدوميم مستوطنة قوية وحرة، سيكون من الصعب إخلاؤها. ومقابل ذلك، تبدو مستوطنة أفني حيفتس الممتدة على طول عدة كيلو ميترات على التلال الواقعة غرب طولكرم مبنية بطريقة بيت خلف بيت بصورة طويلة، معلقة على عائق فلا يوجد لها امكانية الحياه سوى الوهم الجمالي الذي وضعها في وسط السماء. فالمستوطنة الجماعية التواراتية أقيمت قبل خمسة عشر عاماً ويبلغ عدد سكانها مئة وثمانين عائلة من الباحثين عن "السكن المريح (شقة مكونة من اربعة غرف ثمنها 40 الف دولار). سكان المستوطنة منغلقون أمام رياح الزمن، فالجو فيها صاف وعلى الأشجار المزروعة في مفترقات الطرق علقت إعلانات باهتة عن وجود مدرسة دينية ثانوية اسمها "اور عتصيون" برئاسة حاييم دروكمان، مهمتها تأهيل "جيل ضابط المستقبل في الجيش الاسرائيلي". وتضمن المدرسة لتلاميذها دراسة الجيش والأمن ودورات في سلاح المظليين وتدريبات ميدانية، والتعليم معفى من الرسوم. لكن الواقع يبدو أقل ضماناً فالشوارع التي تحمل اسماء ذات تعبيرات خاصة مثل: "هود والكرمل وحرمون وغلعاد وإيفي هناحل"، هي شوارع مهجورة. وعلامة الحياة الوحيدة هي دراجات الاطفال الكثيرة الملقاة على مداخل الابواب. والابنية التي اقيمت قبل عقد او ثمانية اعوام تشبة بيوت الاشباح، فشبابيكها مغلقة أو محطمة وشرفاتها فارغة. أما نسيم المواسرجي الذي التقينا به ورفض ذكر اسمه بالكامل فقد جاء إلى هنا من نتانيا فقال انه يدفع اجرة شهرية مقدارها مائة دولار، وإذ منح بيتاً وعملاً وتعليماً دينياً كما يرغب لاولاده في مكان آخر سينتقل .
وفيما يتعلق بعوفرا فهي قصة أخرى، مستوطنة العلم، يسكنها أبناء العائلات الاصيلة وهي مستوطنه جماعية نخبوية تمتاز ببيئة انسانية وإيديولوجية. غير انها عانت في صف 2004 من الإنهاك وشعر ساكنوها بالتعب والاكتئاب لاكتشافهم انفصال جمهور إسرائيل الواسع عنهم. وفي هذا الإطار صرح يسرائيل هرئيل ،الشخصية الابرز في عوفرا ومن قادة المستوطنين، الذي رافقنا خلال جولتنا في المستوطنة والاحياء والمواقع الاستيطانية التي انبثقت عنها :"إنهم اخطأوا بعد انفصالهم عن شعب إسرائيل رغم أحاديثهم عن المصلحة الجماعية". وكتب في مجلة نكوداه يقول :" هناك اعتقاد راسخ أن ما قمنا به هو من أجل شعب إسرائيل، غير أننا نعمل في حقيقة الأمر من أجل معتقداتنا نحن -معتقدات الحاخام كوك. غير أننا من الناحية العملية نعمل من أجل مصلحتنا والمجموعات التابعة لنا فقط". وناشد هرئيل قادة المستوطنين وهو أحدهم ويصفهم بأنهم "جماعات مصالح أحدثت المعجزات" انه ومن أجل المحافظة على الغيتوات الخاصة بنا، فإن علينا التخلص من "الطابع المسيحي" لصالح "الطابع السياسي" وبدلاً من "إجماع الجمهور الإسرائيلي" يحل "اجماع الوسط في إسرائيل ". وأضاف أن طريق "اجماع الوسط" قادت المستوطنين دائماً إلى التحالف مع حزب العمل التاريخي الذي يحن إلى قيمه. وفي هذا الاطار ذكر بنحاس فلرشتاين :"أن القيم بالنسبة لي هي يغيئال الون والجانب العملي هو شمعون بيرس". ويضيف فلرشتاين ،رئيس المجلس الاقليمي ماطيه بنيامين، وأحد اقوى وأعند الشخصيات في قيادات المستوطنين :"أنا لا اتدبر مع الليكود، لانهم ليسوا رجال عمل وقد شعرت بالقرب من اشخاص مثل الحنان يشاي وموشيه نيتسر اكثر من أرئييل وعمري شارون اللذين تعلمنا منهما أسلوب دونم آخر وشاة أخرى وموافقة أخرى … وتعلمنا منهم أن نضرب رؤوسنا بالحائط حتى ينهار". وأضاف ماذا لو قررت الديمقراطية الاسرائيلية اخلاء المستوطنات ؟. ويرد قائلا سنناضل حتى الحظة الاخيرة وبكل الطرق من اجل عدم حدوث ذلك" وبعد لحظة توقف يضيف "بكل الطرق القانونية". وبعد ذلك يقص فلرشتاين علينا رواية عن الحاخام الكبير الذي جاءوا اليه في وسط الليل ليتشاوروا معه في موضوع الاخلاء حين قال لهم "لا تلمسوا ولدي" والولد بلغة الحاخام هي دولة اسرائيل. وفيما يتعلق بفلرشتاين فهو من سكان عوفرا ويعمل من مكتبه في بسجوت المستوطنة الصغيرة التي اقيمت عام 1981 وتطل على رام الله من أعلى ،بلغة الأسياد، عبر رائحة السور الواقي "الضربة" حسب وصف المنتج والمدافع عنها. ومن الناحية العملية تعتبر بسجوت حياً يهودياً صغيراً معلقاً في حلق المدينة الفلسطينية الكبيرة رام الله وتحرس من قبل قوات كبيرة وقناصة يراقبون المحيط ليل نهار. لكن فلرشتاين وزملاءه في بسجوت لا يعتبرون ذلك أمراً سيئاً ويسمون ذلك "بيتاً في الوطن" .
تاريخ المستوطنات وإقامة دولة إسرائيل ووجودها وحروبها قامت على أنقاض الكارثة، تعتبر تاريخ إسرائيل. غير أن المستوطنات كانت وما زالت مأساة اشغلت العالم كله الذي يعتبر نفسه لاعبا شريكا فيها. وعلى الرغم من ذلك ورغم وجود عشرات الحكومات الاسرائيلية ووسائل الاعلام المحلية والدولية التي رافقت هذا المشروع منذ أربعة عقود، ورغم انها تدمي القلوب والذاكرة هنا وفي كل العالم، الا انه لم يكتب حتى هذا اليوم كتاب واحد وشامل حول قضية المستوطنات اليهودية، إن كان باللغة العبرية أو بلغة أخرى. ولم ترو بالكامل قصة الاراضي التي احتلتها اسرائيل منذ عام 1967 والتي من جانبها احتلت دولة إسرائيل. وعليه، يحاول هذا الكتاب طرح الرواية لأول مرة. والكتاب الذي بين أيديكم كتب في سنوات الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وهي سنوات مخيفة كشف فيها عن الثمن الهائل الذي يدفعه المجتمعان -الاحتلال والمحتل, الإسرائيليون والفلسطينيون- نتيجة الاحتلال الاسرائيلي. وفي هذا المجال، فإن نظرية المأزق الذي وصلت اليه دولة عصرية وقوة عظمى لم تنجح في تحويل النصر العسكري المذهل إلى حالة سلام فقط، ووضعت نفسها محل تعليقات لن تنتهي في المجالات الانسانية والاخلاقية والاجتماعية والعسكرية والسياسية لإحتلالها شعباً أخر واستمرار السيطرة عليه. والأفكار المطروحة هي الموجهة لتأليف هذا الكتاب الذي امتلك مؤلفاه الفطنة بالكشف عن أن هذا المسلك وليس قادة هذه الدولة هو صانع التاريخ.
يبحث الكتاب في ثنائية سمحت بظهور حركة الاستيطان المشبعة منذ يومها الاول بشعور الرسالة الدينية الوطنية المقدسة من جهة. ومن جهة أخرى، أدت إلى انهيار مؤسسات الدولة وانحلالها بعضها برضى والبعض الآخر نتيجة ضعف بعض المسئولين. إذا، هذه هي الرواية المتكاملة للمستوطنين ودولة اسرائيل. ولم يكن بالإمكان نمو هذه المستوطنات لولا المساعدة المكثفة التي تلقاها المستوطنون من مؤسسات الدولة المختلفة ومن دون تهيئة قانونية أو بدون علاقات الود التي تراكمت بين المستوطنين وبين قيادة الجيش. والعدد الكلي للمستوطنات لم يبن وفق الصلاحيات الممنوحة للسلطات المختصة والمسئولين عنها فقط، بل تم بناؤها بتشجيع وبمبادرة من هذه السلطات. وأول المستوطنات الموافق عليها "قانونيا" بنيت في عصر حكومات المعراخ، أما ازدهارها الاقتصادي فتم في عهد حكومات الليكود، أما المسئولية عنها وعن تطورها فقد أخذته على نفسها حكومات العمل والليكود وحكومات الوحدة الوطنية. وخلال المفاوضات التي جرت -منذ التوقيع على اتفاق اوسلو في أيلول 1993- الاتفاقات الموقعة منذ العقد الماضي شهدت المستوطنات ازدهارا في عملية البناء لم تشهد له مثيلاً، فرغم حرص الحكومات على التصريح بالموافقة على البناء الجديد في حدود المستوطنات القائمة، إلا أنها وكما هو الحال دائما تواصل دعم – بالجهود السياسية والمالية وفشل القانون والردع- إقامة مستوطنات جديدة بحجة أنها أحياء جديدة ومواقع استيطانية في حدود المستوطنات القائمة. وفي المقابل، أشار من راقب توسع المستوطنات أو تعاون في إقامتها مثل مراقبي الدولة والمستشارين القانونيين للحكومة والمحاكم والسياسيين ومنظمات حقوق الانسان والاكاديميين ورجال الاعلام والوزراء والضباط وكبار الموظفين، إلى سرقة الاراضي المتواصل واستمرار مشاكسة الفلسطينيين التي تزداد خطورة. رغم ذلك لم يأت الحساب بعد، ولم يطرح أي شخص دوره في قضية المستوطنات حتى للنقاش العام، لأن المجتمع الاسرئيلي أقل ديموقراطية وأقل انسانية ومشبع بالكراهية ومنقسم على نفسه بسبب المستوطنات، أو لأن الغالبية العظمى من الاسرائيليين انجذبوا من دون ازعاج إلى تأييد المستوطنات التي احتلت دولة إسرائيل ودمرت حياة الفلسطينيين.
قصة المستوطنات والاحتلال قصة كبيرة جداً، فهي قصة مركبة وسرية وذات انعطافات في سنواتها الاولى ووحشية ومأساوية طالما ظلت المستوطنات على مدار السنين. وتبلغ هذه القصة من العمر أربعة عقود شاركت في إعدادها أعداد لا تحصى من جانب دولة إسرئيل ومن المستوطنين. وقد حقق الطرفان انجازات كثيرة موثقة بالكتاب. هذه القصة لم تنته بعد, ونهايتها غير معروفة، ففصل من هذه القصة أصبح تاريخا، وفصل آخر كان أخبارا، وما زال هناك فصل آخر غارق في مستقبل غير واضح. ويهدف هذا الكتاب إلى طرح هذا التاريخ المعقد من جوانبه المتعددة. وفيما يتعلق بالتركيبة الهندسية الخاصة للكتاب، فقد تضمنت فصلاً بين الجزء الروائي للقصة الذي خصصت له الفصول الثلاثة الاولى، وبين البحث التحليلي للرواية حول ظهور المستوطنات الذي خصصت له أربعة فصول هي قلب الكتاب. أما الفصل الاخير الذي ينهي الكتاب فهو يربط القصة المتسلسلة مع البحث النظري.
وحول الجزء الاول من الكتاب فهو يتحدث عن البنية التحتية للاحداث والسياسات التي احدثتها مأساة المستوطنات من يومها الاول حتى اواخر عام 2000. ويتحدث عن بناء المستوطنات من عام 1967 – 1977 حيث بداية الاستيطان في غوش عتصيون والخليل وارتباك الحكومات المختلفة إزاء هذه الظاهرة، ودور الاشخاص مثل يغيئال الون ويسرائيل غاليلي وموشيه ديان وشمعون بيرس في تطوير هذه المستوطنات، وبداية ظهور غوش ايمونيم. أما الفصل الثاني، فيتحدث عن الفترة الواقعة بين عام 1977 – 1992 والتي ترأس الحكومات فيها إما الليكود أو حكومات الوحدة الوطنية، وهي سنوات مناحيم بيغن الذي خيب أمل المستوطنين، لكنها كانت سنوات أرئييل شارون، القوة المسيطرة في تطوير المستوطنات ونشرها في جميع انحاء الضفة, وذلك لمنع اخلائها وتسلميها للفلسطينين. كما نبحث في هذا الفصل العنف المتصاعد من الطرفين وقضية التنظيم السري اليهودي. أما الفعل الثالث فيغطي التسعينيات التي شهدت توسيع وتطوير المستوطنات تحت غطاء اتفاق اوسلو, وفي ظل المذبحة التي نفذت في مغارة الماكفيلا وقتل رئيس الحكومة. كما يبحث هذا الفصل ولأول مرة العلاقة بين مذبحة الخليل ومقتل رئيس الوزراء في قلب تل ابيب .
أما الفصل الرابع وهو بداية الجزء النظري من الكتاب فمكرس للبحث في الجذور التاريخية والايديولوجية لحركة غوش ايمونيم وطبيعة العمل الخاص الذي طورته هذه المنظمة التي تحولت بسبب طابعها وإرثها وحواراتها وشخوصها إلى الحركة السياسية الأكثر تنظيماً وتأثيراً على المجتمع والديمقراطية السائدة في إسرائيل منذ إقامتها، وهي الأخطر. أما الفصل الخامس، فيبحث في ثقافة الموت وطقوس الموت في اوساط المستوطنين، وتحويل الموت والأموات إلى أداة سياسية ذات تأثير قوي جداً .
أما الفصل السادس فيبحث في عمق العلاقات الخاصة التي تراكمت على مدار السنوات بين المستوطنين وقيادة الجيش وأجهزة الأمن, ويحلل العلاقة المزدهرة والعميقة التي تراكمت بين الارض وبين الاطراف. أما الفصل السابع، فيبحث في الابعاد القانونية لقضية المستوطنات، ويتبع الطريقة التي ادت إلى اعطاء صبغة قانونية للإحتلال الاسرائيلي والمستوطنات من قبل المدعي العام العسكري في حرب الايام الستة وبعدها، كما يراقب عن كثب دور المستشارين القانونيين للحكومات والمدعين العامين والاكاديميين والمحاكم. وهذا الفصل يحلل عملية تقنين عدم الشرعية الاساسية للوجود المدني اليهودي في منطقة محتلة وعدم تطبيق القانون عليهم. كما يطرح هذا الفصل عدم المساواة امام القانون، كما قال امنون روبنشتاين بخصوص المناطق في الكنيست "هناك مواطنون إسرائيليون مع كامل الحقوق، وهناك غيرهم ليسوا مواطنين ولا إسرائيليين ولا يملكون حقوقاً ". أما الفصل الثامن الذي ينهي هذا الكتاب فيتحدث عن قصة الاربعة عشر عاماً الماضية وسنوات حرب المستوطنات الوحشية. كما أن الكتاب يتحدث عن جدار الفصل مع التركيز على دور شارون في تخليد الاحتلال والمستوطنات، كما يبحث في الاحداث التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة وعملية الفصل الاولية التي تجري هذه الايام.
وينقص هذا الكتاب فصل مركزي وحيوي هو الفصل الاقتصادي الذي يتحدث عن ثمن المستوطنات وما يحمل ذلك من معان. ورغم أن الكتاب يحتوي على معلومات كثيرة حول ثمن هذه المرحلة أو تلك في مشروع المستوطنات، وهي منشورة في الفصول المختلفة للكتاب. والمعلومات عن الثمن الذي جنته المستوطنات موجودة بغزارة ومدفونة في كتب الميزانيات، وموثقة بفصول في استجوابات الكنيست والصحف وتقارير المنظمات الاجتماعية وتقارير مراقب الدولة والخ . لكننا فشلنا في كتابة فصل عن الثمن الاقتصادى للمستوطنات التي اقيمت على مدار العقود الاربعة الماضية لاننا لم ننجح بتوفير معلومات معتمدة ومفصلة رغم المساعدة التي قدمها اقتصاديون وباحثون كانت مهمتهم إيجاد البنية الفعالة لمثل هذا الفصل. الثمن الاقتصادي للمستوطنات مركب ومعقد جداً أمام الباحثين وأمام القانون. وليس صدفة أن ضخت اموال هائلة من ميزانية الدولة بشكل منهجي لهذا المشروع تحت مسميات مختلفة وبواسطة وزارات الحكومة ومن وكالات دولة أخرى، وكذلك المساعدة من الوكالة اليهودية والمؤتمر الصهيوني اللذين ضخا أموالا عبر قنوات لا تحصى ولا تعد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع تمويه مقصود حول الجهة النهائية التي سترسل اليها الاموال. وخلال حديثنا مع اهم وزير مالية في إسرائيل (شغل المنصب في ثلاث وزارات) ابراهام بييغا شوحط قال إنه حاول وضع حد لضخ الاموال عبر القنوات المختلفة والسرية لكن كلامه معنا كان في العموميات، غير أنه اعترف أن الموارد ضخت إلى المستوطنات بموافقة الحكومة ودونها .
الكذب والإخفاء والنفي وغض الطرف والضغط هي ميزات سياسة الدولة على طول الفترة في كل ما يتعلق بضخ الاموال إلى المستوطنات. وهنا يمكن القول انه تم تنفيذ أكبر عملية احتيال عامة في تاريخ دولة إسرائيل منذ عام 1967، وهي رشوة هائلة تنتظر بحثاً يكشف فيه عن دور الدولة وحجم الاموال التي ضخت في هذا المشروع, ويحق للمجتمع الاسرائيلي أن يعلم الثمن الاقتصادي الكامل للمستوطنات. وفي إطار ما لم نكتبه في هذا الكتاب يجب أن نوضح أننا وبقصد واضح لم نبحث بالاستيطان المكثف للمستوطنين الباحثين عن شقق للسكن المريح فيها، بل ركزنا البحث على المستوطنات الايديولوجية. وأخرجنا من هذا الكتاب الحالة المعقدة التي تحتاج لوحدها بحثاً شاملاً هي القدس. ولم يبحث الكتاب في قصص المستوطنات في هضبة الجولان وقطاع غزة، وركزنا بحثنا على الضفة الغربية موقع معظم المستوطنات ومهد ولادتها ومركز حياة الشعب الفلسطيني والمأساة التي يمر بها .
ومن أجل تأليف الكتاب اجرينا عشرات اللقاءات والأحاديث مع مسئولي الدولة والجيش وقضاة واقتصاديين ومع عدد كبير من المستوطنين الذين فضل بعضهم ذكر اسمهم فيما رفض البعض الاخر ذلك. ويعتمد الكتاب في مراجعه الاساسية على مواد مكتوبة وشهادات ووثائق رسمية سرية ومكشوفة ، وسجلات المحاكم وتقارير مراقب الدولة وأبحاث من منظمات حقوق الانسان ومواقع انترنت. وعلاوة على ذلك اعتمدنا على اخبار وتحليلات ومقالات الصحف الاسرائيلية والاجنبية التي رافقت عن قرب مشروع الاستيطان بكل ابعاده منذ اليوم الأول. كما اعتمدنا على اراشيف الصحف المختلفة التي تبين لنا أنها مصدر كبير وغني بالمعلومات والمفاهيم في كل ما يتعلق بالمستوطنات. وكان استخدام المصادر الصحفية الكثيرة في تغطيتها لموضوع المستوطنات من خبر وتحليل وتغطية قد ساعد في اغناء هذا الكتاب كثيراً. كما ساعدنا في تأليف هذا الكتاب التقارير الصحفية التي كتبها صحفيون معينون مثل نداف شرغاي من صحيفة هآرتس الذي اعتمدنا على تقاريره في الحصول على معلومات كبيرة جداً، وأشرنا إلى ذلك في صفحات الكتاب. كما اعتمدنا كثيراً على الصحف الداخلية للمستوطنين انفسهم التي تعبر عن وجهة نظر ايديولوجية خالصة, وتعتبر نفسها صاحبة رسالة ومكرسة لشرح وجهة نظر المستوطنين انفسهم مثل "نكوداه وبشيبع". كما استعنا بالصحف الناطقة باسم المستوطنات نفسها والتي استخدمت بشكل ثابت في نقاشات ايديولوجية وسياسية شديدة ونشرت معلومات متنوعة عن حياة المستوطنين. واعتمدنا في كتابنا على مصادر بحثية فرعية تحدثت في الموضوع مثل الابحاث الطلائعية للجنة أودي (أفيعاد) ولإيهود شبرينتساك وتسفي رعنان وداني روبنشتاين وأمنون روبنشتاين وغدعون أران وأفيعزر رابيتسكي الذين ساعدونا ايضاً في كتابة الفصل الخاص بغوش ايمونيم. كما اعتمدنا على ابحاث روؤبين بدهتسور وكتب المذكرات والشهادات الشخصية مثل كتب يحيئال أدموني وشلومو غاريت وغيرهم الذين وجهوا العمل في السنوات الاولى من قضية المستوطنات. أما ابحاث يغيئال ليفي وإيان لوستيك وغيرهم فقد ساعدتنا في كتابة الفصل العسكري. وفيما يتعلق بأبحاث إيال بنبنستي وإيال زامير ودافيد كرتسمر وموشيه هنغبي فقد ساهمت في كتابة الفصل القانوني. ومع ذلك، فإن هذه الفصول كغيرها تعتمد في معظمها على مصادر أولية.
ٍٍٍالمسئولية عما هو منشور في هذا الكتاب تقع على عاتقنا فقط. وهي محاولة أولى غير مكتملة للحديث عن قصة المستوطنات المعروفة جيداً والمجهولة جيداً مع كل ابعادها المعقدة وغير المفهومة. والهدف من هذا الكتاب هو كشف ما حاولوا إخفاءه عنا ولم يرغبوا بأن نراه على مدار السنوات السابقة، كما نهدف من ورء هذا الكتاب الموضوع أمام النقاش العام المتزن خاصة في هذا الوقت الخطير بالنسبة للمستوطنات، وبصورة أكثر من ذلك لإسرائيل.