نشرة دورية تعني بالترجمة عن الصحف والمجلات العالمية

نشرة مترجمة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر التوجيه السياسي

تصدر عن هيئة التوجيه السياسي والوطني

 

فك الارتباط  –  أزمة ايديولوجية

 

 بقلـم: يهودا بن مئير

مركز جافا للدراسات الاستراتيجية

 ترجمة: زريفة الأشقر

 

     أصبحت فكرة أرض اسرائيل الكبرى  مركزية أيديولوجياً وشعبياً وفي كثيرٍ من الحالات قضيةٌ  ذاتيةٌ لعددٍ كبيرٍ من الإسرائيليين منذ أكثر من ثلاثين عاماً. خطة الفصل الإسرائيلية تمثل لحظة للحقيقة، ونقطة اللاعودة. هذه الخطة بدون شك  فجرت أزمة عميقة، متحدية ومزلزلة كثيراً من الحقائق التي تشكل وجهة نظرهم.

إن الجانب المهم من هذه الأزمة نابعٌ من حقيقة أن مهندس وقائد فك الارتباط هو شارون وليس أحدٌ غيره والذي ما زال حتى الآن رئيساً وحامياً لشعبه. ومن المرجح أن يكون لهذه الأزمة ارتدادات بعيدة المدى . 

هذا المقال ستقيّم أبعاده  هذه الأزمة  ومتطلباتها بشكلٍ رئيسي لهذه الجماعة ومن ثم للمجتمع الاسرائيلي ككل.

 تهديد الحرب الأهلية أشير اليه أكثر من مرة. وزراء حكومة وأعضاء كنيست وقادة جماهير من دوائر مختلفة ناقشوا بانتظامٍ الحاجة الى إحباط مثل هذه الإحتمالية,  لذلك من المهم التأكيد ومنذ البداية  بأن لا خطر من اندلاع  حربٍ أهلية.

 استعمال مصطلح "الحرب الأهلية" أحياناً هو انعكاس لمحاولات إخافة الجمهور العام وتقليل دعمه لخطة الفصل, وفي حالات أخرى يعكس الغوغائية والجهل. لاحقاً لن تكون هناك حربٌ أهلية بدون قوتين  مسلحتين ، وهذا يعني أنه لن تحدث حرب أهلية بدون انشقاق في الجيش.

خلال الحرب الأهلية الأمريكية انشقت الوحدات العسكرية للولايات الجنوبية, وشكلت الجيش الكونفدرالي آخذة معها أسلحتها وهيكلتها القيادية. انشقاقٌ شبيه في الجيش حصل في الحرب الأهلية في اسبانيا.  وتوجد احتمالية ضئيلة من أن وحدات من جيش الدفاع الاسرائيلي كسلاح الدبابات أوالمشاة أوالمدفعية أوالوحدات الجوية بأسلحتهم بأن ينشقوا مع قادتهم أو يتحالفوا مع معارضي خطة الفصل.

مع أن خطة الفصل لم تضع اسرائيل على شفا الحرب الأهلية فانها لم تخفف  كذلك من الأزمة  التي يوجهها كبار مؤيدي دولة اسرائيل الكبرى، و لم تقلل من جدية تشعبات خطة الفصل, أو تخفف من صعوبة التحديات التي توجهها الخطة للدولة وللمجتمع الاسرائيلي.

حركة الاستيطان

    المجتمع الذي يواجه أزمة الوعي هذه يشتمل على الآلاف من الأسماء التي تتضمن المستوطنين، غوش امونيم "جماعة المؤمنين" , مجلس يشع (كلمة عبرية مركبة من يهودا و السامرة وغزة) الصهيونية المتدنية، المجتمع الديني القومي, الجناح اليميني،الجناح اليميني المتطرف.

التخمين الأفضل للموقف وللتطورات المحتملة كما تتطلب خطة الفصل هو المزيد من التعريف الدقيق للسكان موضع السؤال. والأكثر أهمية أنها تتطلب فهماً للإختلافات الدقيقة بين الطوائف الصغيرة المختلفة داخل هذا المجتمع.

في الواقع أن حركة الاستيطان في يهودا والسامرة وقطاع غزة والتي تزيد الآن على 250,000 مستوطنٍ تقريباً بعيدة عن التجانس وتشمل أنواعاً مختلفةً من السكان, فسكان مستوطنة معاليه أدوميم، أرئيل، والفية منشي يختلفون عن سكان القنة،افرات، وبدويل والذين يختلفون عن سكان عوفرا، الون موريه، قدوميم, وقرني شمرون. وهؤلاء أيضاً يختلفون عن أولئك الذين يقطنون في ايتمار، هار براخا، يتسهار, وتفوح.

بالرغم من تعدد الوجوه بين مجموعات الإستيطان الصغيرة, فإننا نستطيع ان نرسم خطين رئيسيين هما:

 الخط الأول:  يجمع بين السكان المتدينين (يشمل ثلاث مستوطنات) والسكان الغير متدينين.

 والخط الثاني:  يجمع بين المستوطنات الآيديولوجية والمستوطنات التي ظهرت أساساً من اعتبارات مستوى المعيشة والفرص المتاحة لتملك السكن.

هاذان الخطان ليسا متداخلين تماماً، لكنْ هناك ارتباطٌ مهمٌ وعلاقةٌ متبادلةٌ بين القطبين البارزين, من ناحية عددية، يشكل المستوطنون الآيديولوجيون أقلية بين سكان المستوطنات في يهودا والسامرة وقطاع غزة. لكن الجماعة الآيديولوجية الدينية هي التي تشكل غالبية الأصوات.

 معظم قادة "مجلس يشع" مرتبطون مع تيار الاستيطان الآيديولوجي والذين يشغلون المراكزالرئيسية العليا في المجلس هم من المستوطنين الايديولوجيين.

بدأت حركة الإستيطان التي تقف في مقدمة المعارضة لخطة الفصل والممثلة رسمياً بـ "مجلس يشع" تتشكل خلال الأشهر القليلة الأولى بعد حرب يوم الغفران،  ويمكن ارجاع  جذورهذه الحركة الآيديولوجية والعاطفية  إلى  النشوة التي تلت انتصار اسرائيل والإستيلاء على يهودا والسامرة في حرب الايام الستة. طعم هذه النشوة تذوقته البلاد ككل ولكنها أوحت بمعانٍ إضافية للجماعة الدينية القومية.    

النصر الساحق والخاطف للجيش الاسرائيلي, وتحرير مواقع جغرافية مليئةٍ بمعانٍ دينيةٍ ووطنيةٍ (لاسيما القدس المتوجة برموز تاريخية ودينية متمثلة بالحائط الغربي وجبل الهيكل) ومرتبطة بشعور الإسترجاع الإلهي السريع جرى فهمها كتحقيق للمبادئ الروحية للصهيونية المتدينة وعلى انها التوافق التام بين "سافرا وسايفا" ألا وهما اليد الإلهية ومعها القوة العسكرية.

هذا الفهم دفع بالكثيرين في الدوائر الصهيونية المتدينة الى اقتراح الغاء الصوم الذي يطلق عليه "Tisha BAv" أو على الأقل فترات الصوم الثانوية التي تحيي ذكرى تدمير الهيكل.

هذه المشاعر العميقة التي قويت من خلال التعامل المادي المباشر مع المواقع التي طالما زارها اليهود المتدينون بصورة دائمة لقرونٍ طويلةٍ, من خلال طقوسهم الدينية ونصوصهم التوراتية لم تترجم على وجه السرعة الى برنامج آيديولوجي سياسي واضح يستوجب من الأفراد جعله أمراً واقعاً. بالرغم من مشاعر السموالروحي خلال  السنوات الأولى  التي تلت  حرب الأيام الستة, فإن غالبية الجمهور الديني الوطني تبنت خطوةً مبرمجةً للقضية السياسية ألا وهي مستقبل المناطق. حول هذه المسألة، لم تتوصل المجموعة بعد إلى تشكيل الجناح اليميني الإسرائيلي.          

 توجد جماعة صغيرة متآزرة وملتزمة داخل المجتمع القومي الديني دعت إلى الاحتفاظ بأرض اسرائيل الكبرى كاملةً مهما كان الثمن, ودعمت بقوة الاستيطان الفعلي للمناطق التي احتلت في حرب الأيام الستة. والنواة الداخلية لهذه الجماعة تشكلت من طلبة وخريجين من مدرسة "هاراف" الدينية المركزية في القدس, وفي المقام الأول طلبة الحاخام "زئيفي يهودا كوك"  الناشط الأكثر شهرة والأشد تعصباً  وتأييداًلاسرائيل بإحكام السيطرة الكاملة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.

 كانت الخطوة الأولى لهذه الجماعة في عيد الفصح لعام 1968م الاستيطان بطريقة " زرع الحربة" تثبيت موطئ قدم في ا لـ (Park Hotel) في قلب  مدينة   الخليل, وهي الخطوة التي انتهت بتأسيس مستوطنة ""كريات أربع"" خارج الخليل" وبعد ذلك تمّ الاستيطان في الخليل نفسها.

 في السنوات  التي سبقت حرب يوم الغفران، كانت "كريات أربع" موقع التأسيس لجماعة " ألون موريه" الجماعة التي خدمت بطرقٍ شتى كعنصرٍ محفزٍ لحركة الاستيطان. أما حركة "غوش امونيم" فقد تشكلت بعد حرب يوم الغفران كردة فعلٍ على الصدمة العنيفة التي تسببت نتيجة هذه الحرب. وقد تشكلت النواة الأساسية لـ "غوش أمونيم" من طلبة المدرسة الدينية المركزية "هاراف"،  واشتملت على دوائر لناشطين من الحركات الدينية الصهيونية الاخرى" مثل "ايغود هاموشافيم، هابوعيل مزراخي، وهاكيبو حاداتي". وبالمثل فإن "الحرس الصغير" داخل الجماعة الدينية الوطنية دعّموا الجماعة الجديدة. وهكذا فإن اتحاد "غوش امونيم" وجماعة "الون موريه" أسس حركة الاستيطان التي  كان لتحولها وتطورها الأثر الأكبر على دولة اسرائيل.

تمتعت الحركة الإستيطانية  خلال  المرحلة الأولى من وجودها بدعمٍ هائلٍ من قبل أعضاء المجتمع الديني لاسيما الشباب والبالغين  الصغار بالرغم من حقيقة أنها تشكل أقلية داخل المجتمع الديني الوطني. فخلال الجيل ونصف الجيل ما بين عام 1974 وحتى اليوم( تقريباً جيلين بعد حرب الايام الستة) شهد المجتمع الديني الإسرائيلي تغيراتٍ اجتماعيةٍ و ثقافيةٍ وتعليميةٍ وآيديولوجيةٍ وديمغرافيةٍ بعيدة المدى، التغيرات العميقة داخل الحركة الصهيونية المتدينة هي التي يتناولها هذا المقال، لكن المهم أن هناك عمليتين  كانتا هما العنصر المشكل للحركة الاستيطانية.   

دفع نجاح فعالية سبسطية في عام 1974م " بغوش امونيم"  الى الخارطة السياسية, وجعلها قوة يعتمد عليها ودفع بالوعي الحكومي نحو المضي في عملية الاستيطان. الحدث الأكثر أهمية كان صعود الليكود الى السلطة عام 1977 وهو ما مكن الحركة الاستيطانية من النمو حتى وصلت الى الكتلة الحاسمة الضرورية لترسيخ نفسها. عند هذه النقطة تضاءلت جماعة "غوش امونيم" وحلت  محلها منظمتان تتمتعان بوضع قانوني وهما "مجلس يشع"  و "أمانا". ومنظمة حركة الاستيطان تأسست من قبل "غوش امونيم". وبصدق, وعلى سبيل التمثيل والتعريف بالتباين البارز بينهما فإن هذا التحول يمكن مقارنته بمأسسة الحركة الصهيونية, ثم الانتقال الى دولة اسرائيل العظمى.

لقد تمتع كلٌ من "مجلس يشع وأمانا"  بحصصٍ كبيرةٍ من ميزانية الدولة مكنتهما من تشكيل منظمات لها وزنها والقيام بنشاطات فعالة في مجال العمل الشعبي. وانجاز مشاريع ذات ثقلٍ كبير أمام جمهور عرّفت بها ووضعتها في موقعٍ مرموقٍ أمام قطاع واسع من الناس.

بدأ خريجو "هاراف" المركزية ومؤيدوهم (بما فيهم جماعة الحاخام موشي زئيفي نير المؤسس والمشرف على مدارس بني اكيفا الدينية والحاخام حاييم دروكمان المدير الحالي لهذه المدارس) بممارسة تأثيرهم الروحي والتنظيمي بين حركة شباب " بني أكيفا" والنظام الأساسي لقطاع التعليم الذي يشمل المدارس الدينية العليا للذكور والمدارس العليا الدينية للإناث، وبرنامج المدرسة العسكرية "هيسدر" والمعاهد الدينية التي تسبق الخدمة العسكرية الإلزامية حتى تمكنوا من بسط نفوذهم على هذا النظام بالكامل.

جماعة "هاراف" المركزية هي الصهيونية الدينية المرادفة "لحباد" الحركة الدينية ذات الشهرة الانجيلية أو حركة" لوبافيتش الحسيدية" داخل القطاع الارثوذكسي المتشدد. وهي  شبيهة بحباد في كونها جماعة تبشيرية أقل مستوى وكانت هذه الجماعة في بداية عام 1970 شبكة صغيرة منغلقة، وأقلية ذات طاقة عالية داخل الصهيونية المتدينة. معظم آباء أعضاء حركة بني اكيفا الشبابية وطلاب نظام التعليم الصهيوني الديني بعيدون عن هذه الجماعة في النظرة الى العالم وفي منهج الحياة, في البداية كان تأثير مدرسة "هاراف" محدوداً ولكن بمرور السنين فان نجاح "هاراف" المركزية الذي فرض نفسه شكلاً ومضموناً على الأنظمة التعليمية الصهيونية الدينية كان له تأثير عميق.

 بالرغم من أن هذه الجماعة ما زالت تشكل أقلية في قطاع الصهيونية المتدينة, إلا انها ذات اهمية كبرى لما تتمتع به من نفوذ بالغ التأثير. هذا التأثير الموحد للعمليتين اللتين جرى وصفهما خلال فترة الجيل ونصف الجيل والذي قد يكون مقترنًا بعملياتٍ أخرى, انتهى به الأمر الى ظهور الثقافة الجديدة السائدة للأرثوذكسية الوطنية المتطرفة في صفوف الصهيونية الدينية.

هذه الثقافة الجديدة السائدة "هاردال Hardal" وهي تسمية عبرية للمتدين الارثوذكسي الوطني المتشدد تشمل مجتمعاً كثير الشبه بالمجتمع الارثوذكسي المتطرف في وجهات النظر والعادات وطريقة الحياة.

أما الاختلاف الجوهري فهو موقف جماعة " هاردال "  من القضية الوطنية، ومدى تطابقها مع الحكومة ورموزها. الديانة الارثوذكسية القومية المتطرفة تتطابق مع الحكومة، تشارك في الجيش، ترفع علمها وتتقيد بعطلها الرسمية (يوم الكارثة، يوم ذكرى الشهداء، ويوم الاستقلال).

الأغلبية الكبرى من المجتمع الديني تختلف عن القطاع الارثوذكسي المتطرف في كون جماعات المجتمع الديني مندمجة في القوة العاملة للبلاد ويعيلون أنفسهم بأنفسهم. مع ذلك توجد درجة من التآكل في هذه القرينة أيضاً. لكن المجتمع الديني لا يختلف بشكلٍ رئيسي عن المجمتع الارثوذكسي المتطرف في طرقٍ أخرى مثل: (سلوكه الديني المتزمت، تأكيده على أهمية دراسة التوراة على حساب معظم الدراسات العامة، معارضته لأي صورة من النشاط المختلط، ميله نحو العزلة والانطواء الذاتي، رفضه لأساليب المجتمع الحديثة (تلفزيون – سينما والأدوات الأخرى) وطاعته لسلطة حاخاماته في مختلف مناحي الحياة.

لقد كرست الجماعة الدينية الارثوذكسية المتطرفة قيمتين هما:

"زيادة النسل ودراسة التوراة".

والتيار الوطني المعارض لهذا القطاع  كرس له قميتين خاصتين به هما:     "زيادة النسل وأرض اسرائيل الكبرى". عبقرية أرض اسرائيل الكبرى أساس الحياة والجوهر الأساسي لهذه الطائفة الصغيرة.

والأهم من ذلك هو أن التحول لدى الطائفة الأرثوذكسية القومية المتطرفة كان له تأثيرٌ كبيرٌ على الصهيونية الدينية ككل. الطوائف الصغيرة والتي غالباً ما تكون متمردة على ثقافة الآباء وتنهض كثقافات مخالفة غالباً ما تقود الى راديكالية تقدمية.

لهذا التحول توجد نتيجتان وهما:

النتيجة الأولى:  حركت التيار الرئيسي للصهيونية الدينية نحو اليمين الى الحدّ الذي جعل الصهيونية الدينية تمثل الجناح اليميني للسياسة الاسرائيلية,

النتيجة الثانية:  أفرزت بعض الفروع المتطرفة والغير منضبطة مثل "نور هكفوت" (شباب قمة التل) وحركات تلتقي على طول الخط مع "كاخ" (الحزب السياسي المتطرف الخارج عن القانون.

 

التحدي الوجودي

    شكلت خطة الفصل ضربة كدوي الرعد في يوم هاديء للجمهور الوطني الأرثوذكسي المتشدد وللصهيونية الدينية، خالقةً بذلك أزمة عميقة للهوية الحالية.  كانت الأزمة ذات شقين بالنسبة للجماعة الأرثوذكسية الوطنية المتشددة والتي تتضمن معظم الأعضاء والمؤسسات لحركة الاستيطان الآيديولوجي الديني, ولدوائر أخرى كثيرة.

الشق الأول: أزمة دينية تتعلق بالايمان.

يتجذر اعتقادٌ عميقٌ في وعي هذه الجماعة بأن العمل الاستيطاني في يهودا والسامرة وقطاع غزة جزءٌ من خطةٍ مقدسةٍ واسترجاعٍ لا بدَّ منه, وبالتالي لا رجعة عنه. إنه اعتقادٌ بوعدٍ الهيٍ ولهذا السبب هناك من  يعتبرون ذلك تحولاً من الصهيونية الدينية الى الصهيونية الموعودة (حركة جبل الهيكل، والتحضيرات لإعادة بناء الهيكل، واستئناف عمل الرب على جبل الهيكل هي تعبيرات كلاسيكية لهذا الاعتقاد). لذلك فان في تنفيذ خطة الفصل ضربة قوية لوجهة النظر الدينية الآيديولوجية أويجعلها بالكامل موضع السؤال.

الشق الثاني : الانهيار لركن أساسي معرفي.

 وفقاً لوجهة النظر هذه فإن اقامة ما يمكن من المستوطنات على أراضي يهودا والسامرة والاحتفاظ بجميع المستوطنات في قطاع غزة (بما فيها المستوطنات المنعزلة مثل نتساريم وكفار داروم) والتي كان يفترض التأكيد لأي حكومة اسرائيلية بعدم الاقدام على اخلاء مستوطنات، وبالتالي لن تبقى فرصة عملية لقيام دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي حقيقي. وخلال الجدل الذي احتدم بين قادة المستوطنات, ما بين أسر قلوب الناس بالاستيطان المادي الملموس, فقد اختارت القيادة وبطريقة لا لبس فيها أن تعطي الأولوية لبناء المستوطنات. وافتراضهم الخفي كان أن حكومة الجناح اليساري هي التي تريد إخلاء المستوطنات, وأن هذا لا يمكن قبوله في مواجهة المعارضة المشتركة والمستمرة للمجتمع الديني الوطني والمجتمع الأرثوذكسي المتطرف والجناح اليميني من السياسة الاسرائيلية.

 لم يدر بخلد المستوطنين أن تكون حكومة يمينية برئاسة أرئيل شارون هي التي تهدد وجود المشروع الذي كان هدف حياته الخاص، وقيامه باخلاءٍ واسعٍ لمستوطنة "غوش قطيف" وبعض المستوطنات في السامرة, ومن جانب واحد ليس حتى داخل اطار العمل في تسوية سلمية شاملة. وذلك يعني الانهيار الكامل لهذه الفكرة وظهور وقائع مهزوزة تتعلق بمستقبل المشروع الاستيطاني ككل, الأزمة مبدئية وعميقة، والسؤال لهذا الموقف هو ماذا سيكون رد فعل المجتمع الديني الوطني تجاه هذه الازمة, من المهم أن نميز بين الطوائف الصغيرة المختلفة داخل الصهيونية المتدينة.

واحدٌ من ردود الفعل المحتملة هو كسر جميع القواعد برفض قبول قرار الدولة وتفجير انتفاضة عامة ضد تنفيذ خطة الانسحاب.

إن التعبير البعيد المدى  لهذه الخطوة هو تبني الاجراء الأشد تطرفاً الذي يقول: "اذا انسحبت دولة اسرائيل من ارض اسرائيل فعندئذٍ نحن ننسحب من دولة اسرائيل".

وفي الحقيقة فإن هذا التصرف الذي يكسر جميع القواعد يحظى بنموٍ فائقٍ ومتواصلٍ في الدعم والتأييد داخل المجتمع الأرثوذكسي الديني المتطرف داخل البلاد, في الوقت نفسه يوجد اختلافان واضحان لهذا التصرف بالنسبة لشريحة من المجتمع الديني الوطني المتطرف (وهم أغلبية اليوم) هذه خطوة تكتيكية أساسية, أما بالنسبة لبقية المجتمع فهي خطوة استراتيجية.

وبالنسبة لاولئك الذين يوظفون التصرف التكتيكي وهم ممثلون غالباً بالقيادة المؤسساتية لجمهور المستوطنين "مجلس يشع" الذي يشكل تهديداً رئيسياً للحكومة وللمجتمع الإسرائيلي، ويعتمد في الأصل على أن يؤدي غرضه ويحبط مشروع  رئيس الوزراء كي لا ينفذ خطة الفصل.

الى حدٍ ما, مؤيدو التصرف التكتيكي هم في غاية الحرص على أن لا يتجاوزوا الخطوط الحمراء.  ويستخدمون مصطلحات غامضة ومشوهة لها علاقة بالعصيان المدني والرفض الشخصي للجنود باطاعة الاوامر، لكنهم سوف يقودون رفضاً منظماً وعنفاً منظماًلاطاعة الاوامر. وبشكل مماثل اولئك الذين يوظفون التصرف الاستراتيجي بدعم عدد كبير من حاخامات يشع والحاخامات المقيمين خارج المناطق المحتلة يرغبون أيضاً في استبقاء الأمر ووضع علاقاتهم مع دولة اسرائيل موضع الاختبار, إن آيدولوجية هؤلاء تمضي بسرعة نحو آيدولوجية شبيهة بتلك التي تتبناها "ناطورى كارتا" الجماعة الأرثوذوكسية المتشددة التي طالما أنكرت شرعية الدولة اليهودية التي تقوم قبل عودة المسيح وترفض الإعتراف بها, علماً بأنهالا تعارض شرعية الحكومة القائمة  قبل عودة  المسيح, ان أزمة الارثوذكسية الدينية الوطنية تستدعي بالضرورة رفض الدولة في شكلهاالحالي. وحتى الآن يبقى التصرف التكتيكي السلوك الغالب لدى هذه المجموعة, ومع ذلك يبقى الخطر قائماً من أن ينزلق مؤيدو التصرف التكتيكي نحوآيدولوجية التصرف الاستراتيجي.

 تمتلك حركة الاستيطان مركزين رئيسين هما: " مركز يشع وحاخامات يشع". ومركز يشع أكثر نفعاً, بينما يقود الحاخامات الخط المتطرف. ويقوم توتر غير مرئي بين هذين المركزين. ويعود ذلك الى افتراض أن مجلس يشع يمثل كافة المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة, وبالتالي عليه أن يضع في الحسبان  مواقف أوضاع المستوطنين غير الآيدولوجيين, بالاضافة الى أن " مجلس يشع"  نفسه هو القوة التي تقود الصراع السياسي الجماهيري وبالتالي عليها أن تأخذ في الاعتبار احباطات الاحزاب السياسية والقيود والرأي العام.  والأكثر من ذلك هناك معارضات داخل مجلس يشع نفسه فيما يتعلق بالمسار الذي سوف يتخذه الصراع.

إحدى المؤشرات المهمة لهذا الرفض كانت استقالة الناطق الرسمي للمجلس. بالإضافة الى أن بعض قادة " مجلس يشع" لا يقودون نظام حياة ارثوذوكسي ديني وطني ينتمي الى التيار الرئيسي للصهيونية الدينية.

وبالمقابل فإن العديد من حاخامات يشع البارزين يعكسون مبادىء الثقافة الدينية الوطنية والى حدٍ بعيدٍ مباديء قادتها الروحيين الذين هم القيادة التي تطلق للارثوذوكسية الدينية الوطنية نغمتها الثقافيةالأكثر أيديولوجية وحماساً من مجلس يشع, تلك التصريحات لعددٍ من حاخامات يشع التي تزداد تطرفاً كلما اقترب موعد الانسحاب.

وأخيراً من المهم الأخذ بالحسبان صفات المستوطنين الأشد تطرفاً ومؤيديهم كالحركات التي تتصل " بشباب قمة التل"  و "كاخ" والتيار المسياني Messianic داخل "حباد" وحيث أن هذه الاتجاهات تمثل أقلية بين المستوطنين الا أنها الأقلية   التي تحرض السكان, ولا تقبل بسلطة مجلس يشع ولا سلطة حاخامات يشع ولم تتلفظ بسلطة القانون أو بدولة اسرائيل.

وهنا تكمن أخطار هذه الجماعات، وهي الاخطار التي لم يتعلمها بعد- أو على الأقل لم يختر الانضام اليها - معظم الأعضاء الذي يقدرون المسؤولية في حركة الاستيطان.

 والسؤال الحرج هو ما اذا كان جمهور الارثوذوكسية الدينية الوطنية المتشددة قادراً على استقطاب التيار الرئيسي للقطاع الصهيوني المتدين مثلما فعل في الماضي.الموقف دقيق وحساس ومعقد بدرجة عالية. فثمة "أسرة" وروابط أخرى بين هذين التيارين كما أن كلاً منهما يتطور داخل نفس الجماعة.

هناك العديد من البالغين الذين ينتمون للتيار الديني الوطني الرئيسي بينما أولادهم وأحفادهم يصنفون  ضمن التيار الأرثوذكسي الديني الأشد تطرفاً, ومن غير  المألوف أن تجد عائلة وطنية متدينة ليس  لها قريبٌ  أو صديقٌ أو معرفة أو عضو في أسرة صديقٍ يعيش في مستوطنة.  وبغض النظر عن ان جميع الدلائل تشيرالى ان الجواب  واضح في الوقت الحاضر – لهذا السؤال-  ان التيار الرئيس الديني  الصهيوني لا يأخذ في الإعتبار أية خطة فصل سياسية او روحية عن اسرائيل أوعن جيشها. والخط الأحمر لهذا الجمهور الذي يشكل الأغلبية الساحقة  في المجتمع الصهيوني الديني هو مسألة رفض  تنفيذ  الأوامر العسكرية على المستوى  الأصولي والأكثر اتساعاً وهو الإتجاه نحو جيش الدفاع.

وفي الحقيقة فإن الدعوة  لرفض الأوامر ذات الصلة مع الأعمال  العدوانية تجاه جنود وضباط جيش الدفاع كالصدامات ابان تفكيك البؤرة الإستيطانية " ميزاب يتسهار" والتهديدات للضباط المتدينين في التظاهرات خارج بيوت كبار الضباط المتدينين ومسؤولي قوات  الأمن العام انتهت هذه  الى ردود فعل ساخنة ليس من قبل التيار الديني الأساسي فقط,  ولكن أيضاً من جماعات كثيرة تعيش في المستوطنات نفسها. في هذا السياق من الأهمية  بمكان ملاحظة الأستعطافات ورسائل المعارضة ضد رفض الأوامر المكتوبة والموقعة من قبل  ضباط كبار متدينين، وسكان مستوطنات، وحاخامات ورؤساء برامج في المدراس العسكرية الدينية، والمعاهد الدينية ما قبل الخدمة العسكرية.

كما أن هناك مقالات صحفية باقلام معروفة بين المستوطنين والقطاع الديني الوطني الأرثوذكسي المتطرف, والتي  لم تتفوه بكلمة واحدة تحذر من الإنسحاب الصهيوني الديني من  الدولة ومن الشعب اليهودي.  احدى الكتاب انتقد  رفض  اطاعة  الأوامر  العسكرية وتحدى سلطة المؤسسات الإسرائيلية الوطنية، ومحاولة تحريك قرارات الشارع  " الرأي العام".  وكتب آخر أنه في حال كون الدولة تصنع وطناً يهودياً أصغر وأضيق، وتلجأ احياناً لوسائل  موضع تساؤل - بقدر ما تسمح   السلطة الديموقراطية - ،  فإن ذلك لا يستدعي تدمير الدولة  كلية لأن السقف في آخر الأمر سوف يسقط فوق رؤوس الجميع.

كما ويجب تذكر أن الحاخام " شلومو أفنير"  وهو واحدٌ من أعظم الشخصيات المعروفة والفعالة في المجتمع الارثوذكسي الوطني المتطرف  طالما رفض وبشكل  قاطع الدعوات الموجهة الى الجنود لرفض الأوامر.

الخلاصة:

دولة اسرائيل ليست على شفا حرب أهلية، لكنها تواجه نزعاتٍ جديةٍ تشكل خطورةً في حد ذاتها وفي أشخاصها, كرفض الأوامر العسكرية، والعصيان المدني  والفوضى الجماعية والاخلال بالنظام العام.

أكثر من ذلك  هذه الجماعات  القليلة المتطرفة سوف تميل إلى محاولة القيام بأعمال متطرفة لاعتراض خطة الانسحاب. لكن ليس المهم كيف سيكون مدى هذه الخطورة لأنها  ستبقى بالنسبة للأغلبية مسألة عملياتية من اختصاص الجيش والشرطة ومشكلة مراقبة  داخلية للمخابرات الإسرائيلية.

لقد واجهت  المانيا عصابة " بادر ماينهوف"  وواجهت ايطاليا " الألوية الحمراء"، وقد استخدمت  هاتان العصابتان القتل والتدمير. ومع ذلك كلتا الدولتين  تغلبتا على هذه الجماعات تماماً مثل بعض الدول الديمقراطية الأخرى التي أحبطت التحديات الداخلية المماثلة.

قوات جيش الدفاع الاسرائيلي في النهاية ستكون قادرة على احباط تلك التحديات , وستنجح في تنفيذ خطة الانسحاب, وحتى  لو رفض عشرة أو عشرون الفاً من الجنود اطاعة الأوامر – علماً بأن احتمال قيام هذا العدد في أية  بقعة من العالم في منتهى الضعف-  فذلك  لن يمنع  الجيش من اتمام مهمته, وربما الإنشغال  المفرط لأعضاء في الكنيست  يمثلون  المستوطنين مثل المستوطن " زئيفي هندل" وهو قائد ورئيس" لغوش قطيف" وهو الآن منهمك في ترتيب القضايا المالية لقانون الاخلاء والتعويض وفي البحث عن مواقع بديلة لإعادة الإستيطان لهؤلاء.

وربما في نهاية المطاف، عندما تصبح خطة الفصل أمراً واقعاً,  أقلية ضئيلة  من سكان المستوطنات سوف يحملون أمتعتهم ويغادرون.  ومع ذلك وتحت أي ظرف فإن غالبية  الجماعة الصهيونية الدينية  لن توجه أي ضربة  ضد جيش الدفاع ولن تقوم بدور الشريك المحتمل في الإنسحاب من الدولة ومن المجتمع الإسر ائيلي.

بالفعل توجد امكانية في حال أن الجماعة  القومية الأرثوذوكسية الدينية المتطرفة والتيار الديني للصهيونية سلكا طرقاً أخرى أن ينشقا ويضعفا بعد أن شاركا في المسيرة أكثر من  ثلاثين عاماً, الإنشقاق  في الحزب القومي  الديني هو فقط لغرضٍ سياسيٍ من طرف التقسيم, وقد يكون المؤشر الأول لظاهرة إجتماعية أساسية أعمق وأبعد غوراً.