الرئيسية / الآراء والمقالات / عيسى قراقع تكتب : الأسير وليد دقة

عيسى قراقع تكتب : الأسير وليد دقة

عيسي قراقع

الأسير وليد دقة… اكتب لكم بحبر الغيبوبة والكيماوي

بقلم: عيسى قراقع
يا شعبي العظيم: اكتب لكم من مستشفى برزلاي الإسرائيلي، ومن غرفة الإنعاش حيث أجريت لي عملية جراحية لاستئصال اورام السرطان التي اصابتني خلال وجودي بالسجن منذ اكثر من 37 عاما، وقد بدأوا بإعطائي العلاج الكيماوي، استيقظت من غيبوبة طويلة، وها أنا اكتب لكم بحبر الغيبوبة والكيماوي، لأدرب الشبابيك على اصطياد الطيور التي تغني لطفلتي ميلاد وتحرك أوراق الشجر، اكتب لكي يلتحم زمن السجن الموازي مع الزمن الطبيعي ويجعل من المكان مكانا لا يهذبه الحديد والجرافة ونظام صهر الاسرى وطحنهم في محرقة السجن، اكتب بيدي وقلبي لا بمعاول التوراة الصهيونية العنيفة التي تحفر قبري.
اكتب لكم بحبر الغيبوبة والكيماوي، لأصنع كمنجة وعودا موسيقيا على بوابات الفضاء حتى تحتفل النجوم والغيوم والكواكب البعيدة، رأيت الملائكة ترقص في اكبر حفلة كونية تشهدها السماء، ورأيت ثقوبا اخرجتني من سطوة الجدار، ورأيت كل أجهزة دولة الاحتلال الإسرائيلي تلاحقني في مشاعري وعواطفي، يطاردون كتاباتي في النص وفي الكتاب، وفي القاعات ومدارس الأولاد.
وصلت الى القدس وباب العامود والشيخ جراح، وصلت الى جنين ونابلس وغزة واللد، وبعد 75 عاما على النكبة شاهدت جيلا يكتب بصموده وحجارته على الأرض وليس على الورق، انها ثقافة الحق في الحياة، ثقافة حق تقرير المصير، ثقافة المظاهرة والقفز عن السياج، ثقافة النار المقدسة في ساحات المسجد الأقصى واشتعال الصلاة، الكنائس تقرع الاجراس، والجوامع تصدح بالآذان، قوافل الشهداء تستقبلني، يسقطون مرة تلو المرة ولكنهم لا يسقطون، كل شيء يقول لي: انهض يا وليد، افق يا وليد، لم يعد هناك متسع لغياب آخر، انقشعت الغيبوبة ولأول مرة تزورني الشمس.
اكتب لكم بحبر الغيبوبة والكيماوي، ما ألذ طعم الكيماوي، وما اسخف هذه الأجهزة المربوطة بشراييني، اكتب بدمي لأتنفس وأحيا، فمن يشعر بالألم يحيا، اكتب على البياض المطلق المديد، وقد وقعت إدارة سجون الاحتلال في ورطة، فجهاز تصوير الاشعة في مستشفى برزلاي لم يكشف عن حالتي المرضية، بل ارسل رسالة من جسدي لطفلتي ميلاد، باقة ورد خرجت من جسدي الى زوجتي الحبيبة سناء، فكتب الأطباء: هذا الأسير بعد ان شعر أنه سيفقد الدنيا هنا وجد له دنيا أخرى هناك.
السجانون والأطباء أصيبوا بالهوس والارباك، مندهشون من عبوري من سيادة الموت الى سيادة الحياة، واظن ان السجانين كانوا يحتضرون، رئتي تتنفس ورئتهم تختنق، انهكهم عقلي وجسدي وقلمي، فليرحلوا من غرفة الإنعاش ويأخذوا معهم سمومهم، لست في النهايات كما اعتقدوا، فمن عرف الابتداء لا يهمه الانتهاء، فأهلا بالأبدية، لقد وجدت حبيبة وأما لابنتي، ووجدت نفسي في المدى الفسيح بعيدا عن توالي الازمان والامكنة، الحمد لله، قلبي لم يهرم كما هرم السجن على سجانيه، احلق واطير واسير الى الامام، اسمع طفلتي ميلاد تنادي: بابا، واسمع القدس تنادي: حي على الصلاة.
في غيبوبتي رأيت ما لم يره الأعداء، رأيت شعبي الفلسطيني يزلزل الأرض حتى تتدفق الينابيع من الاغوار المجهولة، يمزق العقود ويصنع الأمل يحطم أسوار العبودية، شعب يتسلق الجبال نحو الذرى، ورأيت الأعداء يتناحرون ويتصدعون وتضيق بهم الدائرة، الفاشية والعنصرية تقتل أصحابها حتى لو ملكوا الأرض طولا وعرضا، تسليحا وقتلا وعربدة، مصيرهم الهاوية، لست مريضا، انهم المرضى الذين يعيشون في غرفة طوارئ دائمة، نفوسهم فاسدة اراها متشظية قلقة.
اكتب بحبر الغيبوبة والكيماوي، تأويل الأحلام هي مقدرتي الفريدة في السيطرة على المصير، أحلامي هي الصلة الوحيدة بين الذاتي والخارجي، هنا تجتمع حكمة المعرفة بين الإخفاء والاظهار، يتبدد الوهم، قالت لي ذلك أم الرومي تلك الزيتونة العتيقة، تحقيق الأماني الدفينة وصول الطفل جود إلى بوابة السجن والمدن المنكوبة، التخلص من عقدة الخط الأخضر وثقافة الهزيمة، قادتني احلامي الى بيتي في باقة الغربية، اختفى السور الواقي والحواجز الكثيرة.
اكتب لكم بحبر الغيبوبة والكيماوي، لغتي عربية واضحة واضحة، لا تسلك الطرق الملتوية، فلنتسامى في المعاني ولا نغرق في القوالب النمطية، وفي كل لغة بطل حفر على الأرض اسمه، اسألوا الصخور العنيدة، فمن ينقذ اللغة من التطبيع والالسنة المتعثرة؟ من يحرر البطل من داخله دون خوف او وجل؟ للتضحية معنى وبلاغة تسيل حبرا او دما، تنطقها الحنجرة، تحركها يد ويسمعها الحضور رغم الغياب، اللغة لا تذوب ولا تنصهر، اللغة عندما تستخدم فقط للحوار والمفاوضات والشعارات والعلاقات العامة، تصبح هي الضحية المتحولة.
انا لا كتب عن السجن، اكتب عن اليوم الآتي، فمن يعش في السجن يدرك أن هذا السجن يمتد من الوريد الى الوريد، ابعد من مجرد احتجاز وعقاب وتعذيب وحرمان وقهر، اصعب أنواع السجن هو القابع في النفس والذهن والعقل، الوصول الى حالة اللاوعي والرضوخ، قهر شعب ومجتمع وعائلات واجيال واهداف واحلام، تشذيب السلوك والشعور الشديد بالعجز، طعن الذات في قيمتها وكبريائها، السجن يعني انك لم تعد انسانا، انك الة مربوطة بآلاف الأسلاك، لهذا اكتب عن مستقبل شعبي، هذا المستقبل الذي صار اكبر سجين في العالم، فمن يحرر المستقبل؟ يهدم كل هذه الجدران الفكرية والسياسية والاجتماعية، يسترد المناعة ويحطم هذه القدرية.
أنا لا اكتب عن السجن، اكتب عن ذلك الذي يتمرد على النوم حسب توقيت السجان، عن الذي لا يزور نفسه بتصريح ويتعرى في وسط النهار، اكتب عن الذي يتجاوز الحاجز العسكري ولا يدخل بين اسنان الآلات اللولبية، اكتب للذي يدرك تماما ان السلام الإسرائيلي المخادع ليس اكثر من شوارع التفافية، ازاحة الحقائق الموضوعية، تعديل الجغرافيا والثقافة وطمس الهوية، اكتب للذي يدرك تماما ان السلام الإسرائيلي المزعوم ليس بديلا عن التحرر والحرية.
اكتب لكم بحبر الغيبوبة والكيماوي، أنا المحروم من كل شيء، ولكن الحياة ليست رفاهية وخبزا ومشاريعا اقتصادية، هذه ليست السعادة المأمولة، كيف اهنأ والقيد يحز معدتي؟ لا أرى سوى المي، لا وساطة بيني وبين حقوقي السياسية، لا وكالات ولا رجال كابو ولا

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

سفير الاعلام العربي في فلسطين
رئيس تحرير جريدة الصباح الفلسطينية

سري القدوة يكتب : حرب الإبادة الجماعية والأزمات الداخلية الإسرائيلية

حرب الإبادة الجماعية والأزمات الداخلية الإسرائيلية بقلم  :  سري  القدوة الخميس 28 آذار / مارس …