IMG-20230413-WA0013
الرئيسية / ادب وثقافة / إحياء الذاكرة .. والتمسك بالتراث في قصة “ستي ست الحسن” لمصطفى النبيه

إحياء الذاكرة .. والتمسك بالتراث في قصة “ستي ست الحسن” لمصطفى النبيه

IMG-20230413-WA0013

إحياء الذاكرة .. والتمسك بالتراث في قصة “ستي ست الحسن” لمصطفى النبيه

الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت 

تهتم الشعوب اهتماماً كبيراً بتراثها والبحث عن جذورها الحضارية والثقافية، وتحاول أن ترسخها في أذهان الأجيال الجديدة لكي تنمي لديها الشعور بالاعتزاز الوطني، والانتماء للمكان.

إن التراث هو تراكم خبرة الإنسان في حواره مع الطبيعة، وحوار الإنسان مع الطبيعة إذ يعني التجربة المتبادلة بين الإنسان ومحيطه، وهذا المحيط الذي يضم الإنسان فرداً كان أم جماعة. وهو كل مفهوم يتعلق بتاريخ الإنسان في تجارب ماضيه، وعيشه في حاضره، وإطلالته على مستقبله. أما التراث الحضاري والثقافي فهي الممتلكات والكنوز التي تركها الأولون، حيث هي السند المادي واللامادي للأمم والشعوب، ومن خلالها تستمد جذورها وأصالتها وتحيي ذاكرتها، لتضيف لها لبنات أخرى في مسيرتها الحضارية، لتحافظ على هويتها وأصالتها.

في سنة 1906 كتبت الكاتبة السويدية سلمى لاغرلوف الحائزة على جائزة نوبل سنة 1909، قصة للأطفال اسمتها (مغامرات نيلز العجائبية)، و”نيلز” هو الطفل الذي قام القزم بمسخه فحوله من حجمه الطبيعي إلى حجم صغير جداً وذلك عقاباً له لإيذائه الحيوانات، وبسبب حجمه الجديد أصبح يركب على ظهر الأوزة الداجنة “مورتن”، ثم قام بالسفر مع الوز البري رفقة مورتن شمالاً في فصل الصيف، وجنوباً في فصل الشتاء مروراً بمناطق مختلفة التضاريس.

وقد كان لكتابة هذه القصة سبباً تربوية تعليمياً، وذلك أن وزارة التربية والتعليم السويدية اكتشفت تراجع مستوى الطلاب في المدارس الابتدائية في مادة الجغرافية، وحينما كلفت لجنة خبراء لبحث أسباب هذا التراجع وجدت أن كتاب الجغرافية المقرر عليهم يشكل ضجراً لهم وعدم قدرتهم على فهمه، لهذا طلبت الوزارة من الكاتبة لاغرلوف أن تكتب كتاب جغرافية جديد وممتع لا يشعر معه الأطفال بالملل والرتابة، وقد كان هذا الكتاب/ القصة التي من خلالها يتعرف الطفل على جغرافية السويد ومعالمها، وكانت هذه القصة سبباً لإعادة ثقة الأطفال في جغرافية بلادهم. كما جعل الكبار قبل الصغار يقبلون على قراءته، وقد ترجم الكتاب إلى (12) لغة عالمية من بينها العربية، كما قدم للأطفال كمسلسل كرتوني.

هذا الموضوع أثارني وأنا أقرأ قصة الصديق الكاتب والمخرج السينمائي مصطفى النبيه (ستي ست الحسن) الصادرة على نفقته الخاصة، غزة 2022، وهي قصة للأطفال من رسومات الفنانة نورين جودة. وتقع في 65 صفحة من القطع المتوسط. ما جعلنا نتذكر القصة السويدية، أن قصة “ستي ست الحسن” تدور حول الفكرة ولكن بطريقة مختلفة، فهذه القصة تفتح أمام أطفالنا بل أجيالنا الجديدة من الشباب والشابات للتعرف على معالم فلسطين وتراثها المادي والمعنوي، وهي في نفس الوقت دعوة للتمسك بهذا التراث والمحافظة عليه، وهنا يأتي السؤال: لماذا لا تصبح مثل هذه القصص جزءاً من مناهج مدارسنا الابتدائية لكي يتعرف أطفالنا على تراث بلادهم ومعالمها ومكوناتها الجمالية. 

يأخذ أسلوب القصة بناء الحكاية التي ترويها الجدات للأحفاد “طار الحمام هدى الحمام، فاسمعوا مني أحلى الكلام عن ستي ست الحسن”. يتوزع السرد في بناء الحكاية بين ضمير الأنا المتكلم (سلمي بطلة القصة)، وذاكرة التراث/ الوطن (ستها/ ست الحسن)، وتداعي الذكريات (تروي سلمى عن ستها)، والحلم (الذي تنطلق من خلاله سلمي في جمع الأغاني والألعاب التراثية)، ويساندها في تحقيق أحلامها الشاطر حسن (رمز المقاومة)، والعصافير، والصقور (جميعهم يحلقون بها فوق ربوع الوطن)، والعمة فاطمة (ترمز لامتداد الجذور وتواصلها). 

سلمي فتاة ذكية شغوفة بالمعرفة، ولدت في مخيم الشاطئ للاجئين على شاطئ بحر غزة، ولكنها تفتخر بانتمائها إلى أصلها مدينة يافا، في هذا المخيم استقبلتها ستها ست الحسن يوم ميلادها بالأغاني الشعبية التي كانوا يرددونها في يافا قبل الهجرة “هلتي يا هلتي فرحنا يوم جيتي، كان البيت مظلم علينا ولما جيتي ضاويتي”. وبهذه الأغاني استعادت العائلة بلدتهما الأصلية يافا وذكرياتها وأفراحها.

كانت تطلعات سلمى أكبر من عمرها (فهي ابنة الحادية عشرة عاماً)، فهي تشعر بالاختناق من المخيم الصغير جداً والضيق كثيراً، ومزدحم بالناس، وفوق ذلك محاصر من الاحتلال الاسرائيلي، الذي يكبت حريتها والانطلاق نحو الالتقاء مع أصدقائها، فكانت تتخطى الحواجز وتكتب رسائل وترسلها عبر البحر لهم تحكي عن الحياة في غزة، وحالة التناقض التي يعيشها أهلها، فهي في رأيها “مدينة بسيطة مجنونة غير عادية ككل المدن، في غزة أم الحكايات، نعيش الحرب والسلام، في ثانية نغرق ما بين زفة الشهيد وزفة العريس، نعيش فوضى المشاعر”. 

اعتقد الشعب الفلسطيني أن اسرائيل سلبت الأرض وشردت سكانها في المنافي والشتات، ليكتشف أن الاحتلال الاسرائيلي لم يكتف بأرض الفلسطينيين، بل يعمل على سلب كل مكوناته الحضارية والثقافية والتراثية كالأغاني الشعبية والثوب الفلسطيني والمأكولات الشعبية، حتى أسماء الأماكن تم تهويدها.

تأتي هذه القصة (ستي ست الحسن) لكي تعيد بناء الذات المسلوبة من خلال احياء الذاكرة بالتراث الشعبي بكل الوانه، هذا التراث الذي تربى عليه الأجداد والآباء، في محاوله لترسيخه في أذهان الأجيال الجديدة كعنوان لهويتنا الوطنية. فالمقاومة ليست سلاحاً فقط، بل هي القوة التي تحمي التراث وتحافظ عليه، فهو المعبر عن هويتنا الثقافية والحضارية الذي يسعى الاحتلال لطمسها وسلبها بشتى الطرق لكي ينفي عن الفلسطينيين جذورهم في المكان المسلوب بهدف تزييف الرواية الفلسطينية التي تؤكد حق الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية.

يتفتح ذهن سلمى على حكايات ستها عن ست الحسن تلك الفتاة الصغيرة الجميلة التي هاجرت من يافا، تتزين بثوبها الفلاحي اليافاوي المزين بعروق الشجر الملون. تسترجع سلمى ذكرياتها وما روته لها ستها قبل موتها عن حكايات ست الحسن، حيث كانت الجدة تجمع فتيات المخيم مع سلمى وتحكي لهن عن ست الحسن، وكل فتاة تخيلت نفسها ست الحسن في ثيابها الفلاحية، فكل مدينة أو قرية لها ثوبها الخاص بها.

ست الحسن الشغوفة بالعلم والمعرفة هي الجدة، وهي العمة فاطمة، وهي سلمى، فما زرعته الجدة في أبنائها وأحفادها كان مثمراً في تواصل الأجيال للمحافظة على التراث. ست الحسن بعد الهجرة لم تستسلم بل قررت أن تحافظ على جذورها، فجمعت حكايات وألعاب وأغاني أهالي المدن والقرى المهجرة الذين التقتهم في المخيم، وبدأت تمارس ما جمعته وتعلمته في تنشيط أبناء المخيم في الألعاب والأغاني لكي ترسخ فيهم الجذور الفلسطينية.

ويأتي السؤال على لسان سلمى إلى ستها: “ما الهدف من جمع الأغاني والألعاب التراثية؟. تقول الجدة: يا بنيتي، من ليس له ماضي لن يكون له حاضر أو مستقبل، فألعابنا وحكاياتنا وأغانينا القديمة هي جذورنا”. 

بعد احتلال عام 1967 تروي الجدة عن حالة الرعب التي زرعها الاحتلال بين أهالي المخيم حتى لا يشعرون بالطمأنينة والأمان وتشتد مقاومتهم، فنشروا اللصوص بينهم مما أشعل الخوف في قلوب الأهالي وجعلهم ينكمشون على ذاتهم داخل بيوتهم يأكلهم الصمت. حاولت ست الحسن أن توحدهم وتنزع الخوف عنهم ولكنها فشلت، فخرجت تبحث عن منقذ للمخيم، حتى التقت الشاطر حسن الذي سمعت عن بطولاته وقيادته للثورة، هنا دلالة على انطلاق الثورة الفلسطينية، وحكت له الخوف المزروع في المخيم، فحملها الشاطر حسن على حصانه الأبيض وانطلق بها نحو جبال الخليل، حيث جمعت أزهار شقائق النعمان التي تنبت من أرواح الشهداء، فهي الارواح التي توحد الناس وتعيد لهم الأمل.

لقد منحها الشاطر حسن الثقة بأن قهر الاحتلال لا يكون إلا بوحدة الناس، وبالنضال والمقاومة نحقق أمانينا وتطلعاتنا المستقبلية، والتمسك بحقنا وبجذورنا وتراثنا، وطاف بها فوق ربوع الوطن وفوق المدن والقرى المهجرة، وتعرفت على معالمه ومكوناته، وعادت إلى المخيم وهي تحمل ما يعزز ثقة الناس بنفسها، ونثرت فوق المخيم زهور شقائق النعمان، فأعادت الحياة للمهجرين حين اشتموا عبق الأجداد، فانتفضوا جميعاً بصوت واحد ويد واحدة، وشكلوا مجموعات لمحاربة اللصوص حتى قضوا عليهم، وعاد الأمن للمخيم. وهنا دلالة على انطلاقة الانتفاضة الأولى عام 1987 التي وحدتهم نحو الهدف المشترك، وأعادت للفلسطينيين جزءاً من حقوقهم.

لم يحافظ الفلسطينيون على وحدتهم، فبعد وفاة الجدة رمز الوحدة والتمسك بالوطن والتراث، دب الخلاف بين أعمام سلمى ووالدها حول حصتهم في البيت الذي عرضوه للبيع. فسيطر الحزن على سلمى التي ترى أحلامها وذكرياتها تباع في المزاد العلني. وهنا دلالة حالة الانقسام التي أصبحت عنواناً للفلسطينيين، وصراعهم مع أنفسهم أكثر من صراعهم مع الأعداء.

تحمل سلمى راية جدتها/ ست الحسن في البحث عن منقذ يعيد للبيت بهائه، فيدعوها عصفور قوس قزح إلى الانطلاق والحرية وزيارة حديقة الفصول، وتغرق سلمى في حلمها، وتلبي الدعوة حتى تجد نفسها عند أقدم شجرة في حي الدرج بغزة وهي شجرة السدرة، وتغوص في أعماق الشجرة مع العصافير، وعندها تشاهد كل انواع طيور فلسطين التي حكت عنها جدتها في حكاياتها، وهنا تنقلنا القصة ليتعرف القارئ على معالم فلسطين من طيور وأشجار وأزهار، وسهول ووديان وجبال وهضاب وأغوار، حتى شعرت نفسها في جنة الله على الأرض، تلك الجنة التي حرم منها الفلسطينيون، وعندها قالت: “بلادي أجمل البلدان، ونحن تحت حصار في غزة نعيش الحرمان … يا رب الكون، ارحمنا برحمتك، نحن نحب الناس، وأنت خلقتنا أحراراً ولسنا عبيداً، وكل ما نطمح إليه الحرية والأمان”. 

في حديقة الفصول لم تحصل سلمى على مرادها فهي كانت تبحث عن شقائق النعمان، ولكنها لم تستسلم، بل تستمد القوة والصبر من حكايات ستها. وحينما رأتها الصقور دعتها للانطلاق معهم، فما تبحث عنه لن تجده في حديثة الفصول، بل أرواح الشهداء ترحل إلى الأماكن التي هجروا منها ليحرسوها، فانطلقت معهم نحو مدن وقرى فلسطين، وحطت على جبال وجمعت منها شقائق النعمان بكمية كبيرة لكي تنثرها على بيتها وتخلصه من الأحقاد. وفي طريق العودة حلقت فوق يافا وتنسمت هوائها وأحيائها وتلالها، وعرجت على قصر ست الحسن، وتهبط مع الصقور إلى داخل القصر، وحين دخلت وجدت جدرانه مزينة بالرسومات التراثية والأثواب الفلسطينية، وروائح الأكلات تفوح منه، وتفحصت الأواني والمعدات التي كان يستعملها الأجداد في الزراعة والصناعة، وقرأت أسماء عائلات يافا المحفورة على الجدران. 

كل هذا لم يشعرها بالحياة في القصر، فهو جسد بلا روح، كل شيء في القصر شاخ وذبل، مشهد مرعب جعل سلمى تصرخ بالنداء على ست الحسن/ الوطن، فخرج عليها الشاطر حسن/ رمز المقاومة هرماً انهكته الأزمنة، وقال لها إن ست الحسن قطعوا جذورها لتعيش الغربة، وأشغلوا الناس بقوت يومهم لينسوا ماضيهم، ولكي تعود ست الحسن إلى الحياة يجب استعادة الماضي. 

أدركت سلمى الحقيقة المؤلمة وما وصل إليه حال الشعب الفلسطيني، وأنها لا تملك عصاً سحرية تعيد الحب للبيت المنقسم. ولكنها تملك القدرة على استعادة التراث/ الماضي الذي يرسخ وجود الفلسطينيين في المكان.

انطلاقاً من هدف ستها من جمع التراث، انطلقت سلمى نحو المكتبات العامة والخاصة تجمع كل الكتب التي تحكي عن الأغاني والألعاب والحكايات الشعبية، ولكنها لم تجد بينها أية حكاية من حكايات ستها/ ست الحسن، مما يشير هنا إلى تزييف الحكايات الشعبية. وحينما تسأل عمتها عن الاختلاف بين حكايات ستها وحكايات الكتب، تقول العمة: “عندما تم تهجير عائلتنا من يافا كانت ستك طفلة لم تتجاوز الخمس سنوات تحب الحركة والكلام … فمنذ طفولتها قررت أن تكون ست الحسن وتروي تجربتها، فبدأت تجمع الأغاني والألعاب والحكايات التراثية والقصص الشفوية وترويها بما يناسب الأطفال ويهذبهم ويشجعهم على العمل”.

وعند العمة فاطمة تجد سلمى ميراث ستها ست الحسن، من ماكنة الخياطة التي كانت تخيط عليها ثوب العروس، والحكايات التي تحفظها العمة وتحكيها لأحفادها، وتعطيها لسلمى لكي تحكيها لأولادها وأحفادها، حتى تورثها الأجيال، وتهديها ثوبها اليافاوي. وعادت إلى المخيم أول شيء فعلته شطبت عبارة البيع للبيت. وبدأت في تعليم الاطفال أن يكونوا ست الحسن والشاطر حسن حتى تشرق الشمس.

أن كل ما كتبته عن هذه القصة لا يغني عن قرأتها، فنحن أمام قصة للصغار والكبار، وما يأتي بين ثنايا السرد يرسل رسالة للكبار، يحملها الكاتب مصطفى النبيه على لسان سلمى في انتقاد الواقع وما وصل إليه الشعب الفلسطيني بعد سنوات من النضال والمقاومة، فالشاطر حسن شاخ وهرم، والبيت الذي يجمعهم معروض للبيع، فماذا تبقى لنا لكي نحافظ على كيانيتنا الحضارية والثقافية غير التمسك بتراثنا وترسيخ جذور هذا التراث لدى الأجيال الجديدة كي لا تنسي الوطن المسلوب، فهذا التراث هو آخر ما تبقى لنا للتأكيد على المكان، والاحتلال يدرك هذه الحقيقة فيحاول أن يسلبها منا. 

إن فقدان التراث الثقافي يعني فقدان الذاكرة، فالذاكرة هي التي تساعد على اتخاذ القرار، فالفرد الفاقد لذاكرته لا يستطيع أن يستدل على باب بيته، فكيف والحال هكذا أن يصنع مستقبله، ويطور ذاته، ومثلما ينطبق هذا على الفرد ينطبق على الشعوب. فكانت رسالة الكاتب/ سلمى أن الذي يتنازل عن جذوره وتراثه لا مستقبل له.

غزة: 7/4/2023

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

غصون غانم

جلسة على موائد الفلسفة

جلسة على موائد الفلسفة في كتاب ( دوستويفسكي وكانط _ حوارات الأخلاق ) للكاتبة أفرجينا …