الرئيسية / الآراء والمقالات / سليم النجار يكتب : رواية الخرزة- للأسير منذر مفلح (حكاية وطن)

سليم النجار يكتب : رواية الخرزة- للأسير منذر مفلح (حكاية وطن)

سليم النجار

رواية الخرزة- للأسير منذر مفلح
(حكاية وطن) سليم النجار
توطئة
منذر خلف مفلح من قرية بيت دجن قضاء نابلس، ولد في الكويت عام ١٩٧٦، حاصل على بكالوريس صحافة وإدارة عام ٢٠٠١ من جامعة النجاح، وماجستير في الشؤون الإسرائيلية من جامعة القدس عام ٢٠١٨ أثناء وجوده في المعتقلات الإسرائيلية.
تعرض منذر للاعتقال أول مرة عام ١٩٩٤، قبل تقديمه امتحان الثانوية العامة، وبعد الإفراج عنه عاد لتقديم الثانوية العامة ونجح بها بامتياز. اعتقل للمرة الثانية عام ٢٠٠٣ وحكم عليه بالسجن ٣٣ عاماً.
عضو نقابة الصحفيين الفلسطنيين، له العديد من المقالات والدراسات والأبحاث المنشورة، له مجموعة قصص وقصائد، وله رواية الخرزة الصادرة عن دار الفاروق- نابلس عام ٢٠٢٠.
تْطل نافذتي على حديقة ذكرياتي في حيفا… وارفة الظلال… حيث يحلو لي الجلوس كل صباح أتأمل آحاديث والدي- رحمه الله- عن حيفا مدينته الأولى القادم من قريته “صبارين”…
صارت كلماته روتيناً يومياً منحني فرحاً ناعماً، فقررت المساهمة وتأريخ هذه الذكريات… رغم فارق الزمن بين القرار والكتابة، والسبب للعودة لهذا القرار قراءتي لرواية “الخرزة”.
أحرف والدي أراها تكبر يوماً بعد يوم، فتجلَّت بالقراءة التالية لرواية”الخرزة”.
افتتح منذر مفلح روايته بتشابكك حكائي يحمل في طيَّاته تناقض ظاهر للقارئ للوهلة الأولى، وما أن يبدأ هذا المتلقي ممارسة فن القراءة- لا أقول اكتشاف بل تعاطي مع شكل المضمون الذي رسمه منذر ببناء معماري غير تقليدي، تاركأ للمشاهد تقييم هذا المعمار، أي خلق حوار مفتوح بين المعمار والمتلقي: (المسبحة تحيط بعنق أم نصر والعائلة٠ أمست كعدو يتربص بحياة أم نصر، كأفعى تربيها في منزلك ولا تأمن غدرها على حياة أفراد العائلة، إلى حين قرر نصر أن هذه المسبحة ملكه، بعد أن وجدها مخبأة في إحدى الصناديق ص١٠).
هناك علاقة غير مرئية بين الزمن والفلسطيني، يتخلُّلها سرديات خاصة بالأسير الفلسطيني الذي عَرّف الزمن بعذاباته واغتيال آدميَّته تُعرض في بازار المعتقلات الإسرائيلية التي تفنَّنت بسحق إنسانيَّة الأسير:(حتى في السجن، رغم إجراءاته، وأمنه كنَّا نعلم في أي ساعة يدخل كميل جولة تحقيق، ومن هو المحقق معه، وفي أي زنزانة يتعرض للتحقيق، ومكان التعذيب، وشكله، وفي أي ساعة يكون مشبوحاً في ساحة التحقيق في سجن الفارعة تحت الشمس، أو في برد الليل، أو مقيَّداً ومكبَّلاً بيديه ورجليه، يحمل ثقل قيده ووجوده واقفاً على قدميه لأيام في الثلاجة، وما هي أسوأ الزنازين، وما أفضلها ص١٥).
لا تنجو أيديولوجية حقوق الإنسان الصهيونية ومن خلفها الغربية من سوط الكذب، هذه الأساليب العنصرية لا تموت، تستمد ديمومتها من قهر الإنسان الفلسطيني وزجِّه في تيه العذاب، وكل ما تفعله تبدُّل جلدها، تارة تحاكمه بصفة الإرهابي، لا لشيء إلا لأنَّه أراد الحياة بكرامة في وطنه، وتارة أخرى للحفاظ على أمن كيانها المصطنع. وليس من المصادفة أن تكون صياغة الحرية للأسير الفلسطيني هي الحلم في الخروج من هذا التابوت الإسرائيلي:(في السجن نضع كل يوم ألف خطة وخطة للهروب كي يبقى الأمل طازجاً ص٢٦).
إذن، أنت لست أمام عدوٍ عادي. فهو هذه المرة ليس”آخر” فحسب، بل عدوٌ إحلالياٌّ، وقراءته للتاريخ متحيِّزة، وهي كذلك بالضرورة، ولاسيَّما أنها تحمل عنواناً خطيراً وهو إبادة الفلسطيني، وبخاصة أن “أسطورتهم” مقولة لم يأخذ طريقها بعدُ إلى التأسيس في الفكر الإنساني، تلك المقولة التي تتدَّعي أنَّهم “شعب الله المختار”، ويحق لهم فعل ما يريدون، ويقتلون من يريدون مادام- حسب إعتقادهم- أنَّهم “شعبٌ مختار”. في المقابل كيف يرى العربي الفلسطيني نفسه:(صناعة الحياة عمليَّة يتقنها الفلسطيني في كل مكان بمواجهة الواقع… لقد ابتدع الشعب الفلسطيني هذه العمليَّة بعد النكبة واللجوء، وبعد عشرات النكبات المتلاحقة، ليعيد صناعة الحياة من الصفر، وبلا أيَّة مقوِّمات ليسهم في صناعة مستقلبه ومستقبل شعوب أخرى بعد أن دمر الاحتلال كل شيء ص٢٧).
وتحت ضغط هذا الاستنفار النفسي، وجدتني أمسك لا شعوريَّاً بقلم الرصاص لأحيط بالخطوط والدوائر وعلامات الاستفهام كل جملة أو كلمة بدت لي من الصفحات الأولى لمدخل رواية إنشائيَّة، ولكن حِسِّي النقدي ما لبث أن ارتدَّ إلى نفسي عندما تنبَّهت إلى أنَّني لا أقرأ، بل أقوم من الصفحات الأولى بعملية قراءة تقليديَّة، على منوال تلك الطريقة في ترجمة أدبيات الاستشراق التي طالما بدت لي كريهة. هل هذا “التفلسف” كلّه ضروري لتبرير الإقدام على هذه الكلمات- التي ذكرتها قبل قليل- لنقد الإجرام الإسرائيلي الذي عايشه وعاشه الروائي منذر مفلح:(القوانين الفيزيائية معطَّلة بالسجن وملغاة، الإحساس بالمكان محدَّد، الزمن بلا قيمة، المسافات لا تعني الأسير؛ ليدور الزمن والمكان ويلغي القوانين، “ثقب أسود” ينهار، المعنى الفيزيائي “عدمٌ” في فضاء الحرية، لهذا فعالمنا افتراضي تماماً كعالم الهواتف والحواسيب الذكية، نلوذ بروتينه الخاص من قسوة الواقع ص٢٩).
إنَّ العقلانية إنسانيَّة بالضرورة، وإلَّا كفَّت عن أن تكون عقلانية. وبدون إلغاء لهامش الذاتيَّة والخصوصيَّة في أي عقل، فإنَّ خطاب العقل إلى العقل لا يستطيع أن يضع رهانه على شيءٍ آخر غير العقلانية الإنسانية. ومهما يكن الإنسان متجذِّراً في خصوصيِّة هويته، فإنَّه بوساطة العقل ووحدة مقولاته المنطقية يستطيع أن يخاطب عدوه، ومن خلال جسده الذي يعتبره العدو الإسرائيلي خطراً أبديَّاً عليه؛ فكان خطاب منذر مفلح مشهداً بصريَّاً يفضح فضاء الهمجيَّة الإسرائيلية:(يعلق أحد الأسرى الجالسين في آخر البوسنة- ألم، وأخشى أن يموت الألم دون أن يستطيع التعبير عنه، أن أتحول إلى إنسان محتواه الألم، تحطِّمُني هذه الفكرة ص٤٣).
 
 
إنَّ إنتاج الأفكار وأداة تنظيمها وتداولها واستهلاكها واحدة عند الجميع، ولولا وحدة البنية المنطقيَّة للعقل البشري لامتنع عنه التعريف المتواضع للإنسان بأنَّه حيوان عاقل. صار الإنسان إنساناً. فكيف يمكن أن يتحول هذا الإنسان إلى منطقة “الحيوان” غير العاقل في الحالة الإسرائيلية التي حوَّلت الإنسان الفلسطيني لرقم ينتظر الموت:(في السجن نعتاد على وضع السيناريوهات للألم والموت، للمآسي، نفكر فيه حتى لا ننتهي إلى الأسوأ ص٦٥).
التفكير انطلاقاً، لا من النص، بل من الواقع. إذ ما دام المفكِّر يفكر في أنَّ الحقيقة محتواة- سلفاً- في نص، فإنَّه يكون قد ألغى- سلفاً أيضاً- الفكر والتفكير، بل قد ألغى نفسه كمفكِّر. وصحيح أنَّ الواقع الإسرائيلي قد انكشف عنه غطاؤه النظري، بائساً بؤساً شديداً، ولكن تبقى الأيديولوجيا المُستَلِمَة للواقع الإسرائيلي أشدُّ بؤساً حتى من هذا الواقع، ما دامت كل وظيفتها أن تغطِّيه وتستر بؤسه؟ ولمنذر فلاح الروائي سرديَّة تحاكي منطقتين: التفكير وأيديولوجية الاستسلام بمشهديَّة دراميَّة صادمة:(الخرزة مصيره الذي وزَّعته مسعودة. بعد أكثر من ثلاثين عاماً يكرِّر الابن مصير والده، مختفياً في مرايا العتمة في قصور الظلال، في قبورٍ يمكن زيارتها لرؤية الموتى. أحياناً في إناء من زجاج ص١٠٤).
المقاومة الثقافية هي محاكاة فلسطينية قامت على خلفيَّة من المقاومة الثقافية، وصوت هذه المقاومة هو الذي عاد يرتفع عندما بدأت الرواية الفلسطينية تأخذ مكانتها في الثقافة العالميَّة. ومنذر فلاح صار على هذه السردية فصوَّر سرديته على الشكل الآتي:(الخرزة تقترح إعادة القصة كي تكون هي اللاعب الرئيس فيها، يقاوم مرة أخرى، تحاول تركيب ذاكرته والسيطرة عليها ص١٣٩).
تقرأ في رواية “الخرزة” لمنذر فلاح أحاديث الأسرى المتداخلة المتنوعة وقد توخَّت استحضار رؤى الفلسطيني المقاوم وأسئلته المعرفية التي تبلورت برواية الخرزة.
 

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

سفير الاعلام العربي في فلسطين
رئيس تحرير جريدة الصباح الفلسطينية

سري القدوة يكتب : تفاقم الصراع وحرب الإبادة وجرائم المستوطنين

تفاقم الصراع وحرب الإبادة وجرائم المستوطنين بقلم  :  سري  القدوة الاثنين 15 نيسان / أبريل …