الرئيسية / الآراء والمقالات / نادرة هاشم حامدة تكتب : جيل الهجرةوالموت

نادرة هاشم حامدة تكتب : جيل الهجرةوالموت

نادرة هاشم حامدة

جيل الهجرةوالموت

ا. نادرة هاشم حامدة                          

             

*أما كفاك شراهة على أبنائنا يا بحر، هل استعظمت جَلَدَهُم فقهرتهم، أم اطلعت عند ربك الغيب فبلعتهم، وبالموت أرحتهم، ما أقساك علينا وعليهم يا بحر، لقد ضاق البر بهم فلذلك عبروك، وليتك على سعتك يابحر قد وسعتهم ولم توردهم القبور، والله تتلعثم الكلمات فينا حروفها، وترتجف الأقلام بين الأصابع كتابتها، وتختنق المعاني في النفس تعابيرها، ويحرق العيون فينا حر دموعها، ويدمي الفؤاد وجعا مآسينا، ويتخبط الذهن مجنونا ويتمتم مقهورا، إلى متى يظل هذا الحال فينا أخبرونا؟ ما أفظع هذا المشهد المتكرر في مسرحية حياتنا، ما أصعب اللحظات الأخيرة على مسرحها البحري الكبير، وأبناؤنا يصارعون الموت في لجة البحر العميق من أجل الحياة، تُرَى هل أمهلتهم يا بحر حتى يتخيل أحدهم طفله الذي من أجله ركب الموت فيك، أم أستعجلت عليه ولم تمنحه حتى طيف الوداع، هل أرجأته يا بحر لحظات يجتر فيها دفء أمه يتذكر حنانها وهي تحيطه بذراعيها، أم اكتفيت به وقد كابده البرد و أحاطه الموج ليسلمه للمنون، لقد تحطم الآن كل شيء رسمته بيديك يا بني، لتعلن جثتك على صفحة الماء انتهاء كتاب الحياة خاصتك فلا مكتوب فيها بعد الآن ولا مقروء، ولم يتبق شيء مع مشهد الأنفاس الزاهقةو في وسط زحام الموت الزؤام إلا دعاء يونس عليه السلام سبحانك ربي لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين، لا شيء يا بني يجدي الآن في نهاية الزفرات سوى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لتلقوا بها بإذن الله ربكم موحدين …وهكذا تستمر فينا الحكاية بلا توقف، وتتكرر علينا شراهة البحر حتى نبدو كأغبياء لا نتعلم من تجارب الحياة المتكررة بمآسيها، بل ونتعدى ذلك إلى جاهلية أكبر حتى نبدو كمن يقدم للبحر كل حين قربان، ويبقى السؤال في هذا المشهد المشهود مَنْ عنه هو المسؤول؟ ومن الملام ؟ ومن عليه ستقع لعنة الزمان؟ هل المواطن أم الأوطان؟ أم العدو الذي سرق الوطن، أم بعده الذين سرقوه من كل جهة واتجاه؟ وتحت كل راية ومسمى وانتماء؟ لا تلوموا أبناءنا إذ تهاجر بالآمال، فتترك لذويها الهموم والآلام، فإن الحكاية تبدأ حين يقرر أحدهم الهجرة بعد أن تموت آماله على عتبات السنين، وهو ينتظر الفرج والتغيير، لعلها تبتسم له يوما وينسى ما فات، ويبقى كل يوم الحال أسوأ من الحال، فأقصى ما يحققه بنطال يستره من سوق البالة ومزهوا يقول عنه : ماركة، وبالنمرة جديد، أما أصابع قدميه التي تندفع من الشبشب البلاستيكي وترتطم بحافة الطريق لا تهمه فهو مشهد عام، ورغم هذا تراه والعزة والأنفة تعتليه، لا شيء يؤثر عليه، ولا يسمح لأحد أن يلحظ أي حزن في عينيه، فلسطيني غزاوي ذو عرق جبار هو، لا يمكن أن تكسره السنون،.تراه أمه قد كبر ، وعليه أن يجد عملا مهما كان، وفي كل مرة تكلمه، يأخذ نفسا عميقا، وقد مزقه التنهيد، وبصوت مخنوق يقول : حاضر سأخرج يا أمي للبحث عن عمل من جديد، ولو أكنس بشهاداتي الطريق، ولكن دون جدوى عبثا يحاول فيعود، يمعن في حاله ساندا رأسه على يديه خلف رقبته ويقول في نفسه إلى متى؟ لقد تعبت وليس من جديد ،فلهذا يقرر الهجرة والرحيل، كما تهاجر الطيور وتترك أعشاشها في الربيع*.. 

  *انتظر يا بني مهلا، أرجوك أعد التفكير، فهجرتك مؤكد ليست كهجرة الطيور ، فالطيور تهاجر من برد أوروبا الى دفء بلادنا، وانت تهاجر من دفء الوطن الى الجليد، الطيور يا بني تهاجر اسرابا منتظمة، معروف موعدها، محدد وجهتها، مأمون مخاطرها, مُعَيَّنٌ و متبوع قائدها، قد تطول مسافاتها,ولكن تحقق في الأخير غايتها في الوصول من أجل الوجود*.. 

*فماذا عن هجرتكم أنتم يا بني ؟ ليتكم كما الطيور….!!!!* 

*إنما أنتم تهاجرون قسرا، قهرا، ظلما، هربا، أملا في غد أفضل ليتكم يوما تجدوه!! الطيور يا بني هجرتها مأمون كل ما فيها في كل طور، وأنتم ستحفكم المخاطر من كل صوب، فاعدل عن رأيك وابق هنا في عزة القوم، الطيور يابني تطير في الفضاء مفطورة على حمى رب الكون، وأنت منذ أن تهاجر ستكون كمن تتخطفه المنايا في قلب الموت، فإن نجوت يا بني من البر لن تنجو من الموج، وإن نجوت من البحر ستطاردك قوى الظلم والجور، إلى السجون أو إلى مخيمات الذل والويل، مسكين أنت يا بني، ستلاقي المصائب بكل شكل ولون، و أفضل ما تحصل عليه ان تغسل الأطباق بعد أن يشبع القوم، وكلها للنفس العزيزة والله تشبه الموت* 

        

            

 *والله عنهم لَتُسْأَلون وتسألون*..

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

سفير الاعلام العربي في فلسطين
رئيس تحرير جريدة الصباح الفلسطينية

سري القدوة يكتب : 200 يوم من العدوان : حرب الإبادة الإسرائيلية تتواصل

200 يوم من العدوان : حرب الإبادة الإسرائيلية تتواصل بقلم  :  سري  القدوة الخميس 25 …