الرئيسية / الآراء والمقالات / ناهض زقوت يكتب : التاريخ وجمالية المكان في “ليالي اللاذقية” لسليم النفـار

ناهض زقوت يكتب : التاريخ وجمالية المكان في “ليالي اللاذقية” لسليم النفـار

ناهض زقوت

التاريخ وجمالية المكان في “ليالي اللاذقية” لسليم النفـار

ناهـض زقـوت

تكشف الأعمال الروائية الفلسطينية المعاصرة عن تطور كبير في الكتابة الروائية على المستويين الجمالي والسردي، حيث قدمت بعض التجارب الروائية صورة جديدة للواقع من خلال استثمار التاريخ مع المحافظة على المتخيل السردي. وكان الاتكاء على الوقائع التاريخية يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخييلية تتداخل فيها الأحداث مع الشخصيات، وابراز قضايا مسكوت عنها. 

بين أيدينا رواية “ليالي اللاذقية” الصادرة عن مكتبة كل شيء في حيفا عام 2022م، وهي التجربة الروائية الثانية بعد (فوانيس المخيم ــ 2018) للشاعر والكاتب سليم النفار الذي استقرت عائلته في مخيم للاجئين قرب اللاذقية، وفي مدارسها وجامعة تشرين أنهى دراسته، وبين دروبها وحارتها وأزقتها نشأ وترعرع، وعلى أرضها كون صداقات وارتباطات تنظيمية وسياسية، وفي قاعاتها ألقى أولى قصائده الشعرية، فلم تكن اللاذقية بالنسبة له مدينة عربية بل وطن ثاني، فشكلت ذهنيته تفاصيل المكان ووقائعه وأحداثه. كان نتاجها هذه الرواية التي حملت اسم المكان وعمق التاريخ وأواصر المحبة.

جاءت الرواية في 180 صفحة موزعة على عدة فصول، كل فصل حمل عنواناً دلالياً على مضمون الحدث، ومنها عناوين شخصية أي تحمل أسماء الشخصيات الروائية، وعناوين وصفية عبر بها السارد عن مواقف وأحداث. حينما تنتهي من قراءتها تشعر كأنك في وسط مدينة اللاذقية تتنقل بين أحيائها وأزقتها وشوارعها، تستمع إلى ناسها وأهلها، وتشهد صراعاتها واختلافاتها الفكرية والسياسية. لقد تمكن الكاتب من ادخالنا بقوة الابداع إلى أجواء مدينة اللاذقية لنعيش معه السنوات التي عاشها بين هذه الأجواء، وكان شاهداً على أحداثها ومتغيراتها. فمن خلال حركة الشخصيات نتعرف على جماليات المكان من أحياء المدينة وأسواقها، وإلى مكونات هذه الأحياء: مقهى الرومي، وبستان الصيداوي، وجامع عاشور، ومعسكر الطلائع، ومطعم أبو يوسف، وساحة الشيخ ظاهر قرب مقهى الحكيم، ومدرسة جول جمال، وشارع هنانو، وشارع بور سعيد، وحديقة مارتقلا، ومطعم العصافيري، وغيرها الكثير، فقد كانت بعض هذه الأماكن هي ملتقى الأصدقاء والعشاق، وملتقى السياسيين والحزبيين.

يمثل عنوان الرواية “ليالي اللاذقية” العتبة الأولى للولوج إلى النص، وفاتحته نحو الدلالات والتخييل، فهو العلامة اللسانية الأولى التي يقاربها القارئ على سطح الغلاف، ويأتي العنوان متوافقاً سياقاً ودلالياً على موضوع السرد. جاء العنوان مركباً من كلمتين، كلمة (ليالي) تمنحنا البعدين في دلالتها: بعد ليالي الفرح واللهو والمتعة، وبعد ليالي الألم والظلم والعذاب، ولا يستطيع القاري تحديد دلالة هذه الليالي إلا بعد قراءة النص، ليكتشف أن الفرح والألم يمتزجان معاً ليكونان حياة سكان مدينة اللاذقية، فهي المكون الثاني للعنوان الذي يحمل اسم المدينة التي تدور بها أحداث السرد، وفيها تتضح دلالات الليالي.

تتمتع الرواية بشكلها الفني المتميز القائم على المزج بين التاريخ والمتخيل بهدف التعبير عن جوهر الواقع السوري في فترة الثمانينات، إلا أنها لا تقتصر على حقبة زمنية محددة، وإن كانت فترة الثمانينات هي زمن وقوع الحدث، إلا أن الكاتب يعود بذاكرته إلى فترتي الستينات والسبعينات، بل يغوص في العمق الزمني وصولاً إلى نكبة 1948، حيث يتحدث عن هجرة عائلة الرومي من صور إلى اللاذقية، وتعود جذورها إلى مدينة حيفا.

وقد تميزت الرواية بتعدد شخصياتها إلا أنه لم يكن ثمة بطولة شخصية، وإن كان ثمة ملامح بطولية لعماد الرومي بما امتاز به من شخصية قيادية في حزب العمل الشيوعي، وقدرته على كسب ود الآخرين حتى أحزاب المعارضة من إخوان مسلمين وبعثيين، إلا أن البطولة الحقيقية لمكان سرد الأحداث هي اللاذقية، ففي هذا المكان نتعرف على معالمه التي ارتبطت بها الشخصيات: حي سكنتوري وهو حي الفقراء، ويقابله وحي الطابيات وهو حي الأغنياء، وحي صليبة الذي تتآلف فيه الحياة المشتركة، ومن هذه الأحياء خرجت نواة النضال “حزب العمل الشيوعي” ضد قمع الحريات وغياب الديمقراطية، ورغم الفروق الطبقية بينهم إلا أننا ولم نلمس أية فوارق طبقية بينهم فقد وحدهم النضال سوريين وفلسطينيين ضد الهدف المشترك. 

وقد ساهمت بطولة المكان في التأكيد على الدلالة الواقعية للرواية بما تضمنته من أحداث وعوالم حقيقية واقعية، ولكي يؤكد الكاتب على حقيقة الأحداث كان يهتم بتسجيل تاريخ الحدث مثلاً يشير إلى عام 1961 وهو عام انفصال الوحدة، ويرصد تأثيرات الانفصال على الناس، كما يشير إلى عام 1980 لمعركة الخلاف التي وقعت بين زياد الطاير والشيخ الحلبي، ويشير أيضاً إلى عام 1985 وهو عام حملة الاعتقالات التي قام بها النظام ضد المعارضين، وتعبر الرواية عن الأجواء التي كانت مهيمنة في الثمانينات وما كانت تشهده كافتيريا جامعة تشرين من نقاشات وحوارات فكرية صاخبة، وكذلك الحدائق العامة والمقاهي. هذه الأحداث تدور في نفس المكان اللاذقية، وان كان ثمة انزياحات لأماكن أخرى كدمشق وحيفا، إلا أن المكان الأساسي لسير الأحداث يبقى اللاذقية، لذا سارت الأحداث في عدة مسارات: مسار تنظيم حزب العمل الشيوعي، مسار العلاقة بين الأحزاب المعارضة للنظام، ومسار العلاقات الفلسطينية السورية، ومسار قمع الحريات ومفاسد النظام.

إن جمالية الرواية التي تستند إلى التاريخ لا تكمن في أسلوب الكاتب والخصائص الفنية للرواية، إنما تكمن في اظهار وكشف الجانب الخفي والمسكوت عنه وإعادة إضاءته، وهذا ما جاء في تناول الكاتب لفترة نشوء وتكون حزب العمل الشيوعي وصراعاته مع النظام، ومع الأحزاب المعارضة الأخرى كجماعة الإخوان المسلمين وحزب البعث، فحينما يعود الكاتب إلى التاريخ فهو يستمد منه ما يحتاجه في السياق الروائي دون التعمق في التفاصيل، وفي أثناء اتكائه على التاريخ فقد جعل من محاكاة التاريخ سرداً روائياً يضفي على النص جمال التعبير وعمق الفكرة.

تمتاز الرواية بتعدد الأصوات، وهذا التميز يكسر الجمود السردي، ويمنح الرواية تقنية ممارسة ديمقراطية التعبير الذي تستهدف كسر هيمنة الأنا على السرد، ورغم تعدد الشخصيات والأصوات السردية في النص (عماد الرومي، عمر البيروتي، عادل الغانم، زياد الطاير، جمعة الحلبي) هذه الشخصيات تمثل مركزية الأحداث، وإلى جانبها عدد أخر من الشخصيات الهامشية يكتمل بها سرد الأحداث (عدنان الرومي، جمال الرومي، دلال الرومي، عبد الله الرومي، سمية الطاير، فضل حورية، عبد العزيز الغانم، زهرة الغانم، رضوان المنزلجي)، إلا أن السارد يؤكد حضوره ومعرفته الكامل بالشخصيات ومسار حياتها، لذا جاء البناء السردي مخالف للمألوف في الرواية التقليدية، إذ يبدأ السارد بالاستهلال في بداية كل فصل لكي يوضح مجرى الأحداث أو دلالات الشخصية، ثم يعطي الشخصية فرصة لتتحدث عن نفسها، وأحيانا يقطع سردها ليواصل سرد الأحداث التي ارتبطت بها هذه الشخصية، كل ذلك دون أن يشعر القارئ بالملل، بل ثمة متعة جمالية في هذا البناء السردي لما يضيفه من حيوية معرفية لتلك الشخصية.

هذا عماد الرومي الذي انتمى مبكراً الى منظمة العمل الشيوعي رغم أنه ينحدر من أسرة بروجوازية تقيم في حي الطابيات، يقود النضال مع رفاقه عادل الغانم من حي صليبة، وعمر البيروتي وزياد الطاير من حي سكنتوري من أجل الحرية والدفاع عن قضية فلسطين، يواجههم النظام بكل قسوته ولا يفرق في تعذيبهم بين ابن سوريا أو فلسطين، فالنظام ضد الفكرة وليس الأشخاص، ولكن الأشخاص يدفعون ثمن الإيمان بفكرتهم سنوات في المعتقل.

قدمت الرواية صورة مشرقة لأواصر المحبة العلاقات الحميمية بين الشعبين السوري والفلسطيني، تلك العلاقة التي تمتد إلى عمق التاريخ، فهذا عدنان الرومي كانت جدته لوالده سورية من اللاذقية، وتحكي له عن جمال المدينة والعلاقة الحميمية بين أهلها وبين الفلسطينيين، لذا اختار الاقامة في اللاذقية بعد النكبة. وترسم الرواية نسيج هذه العلاقات بالنضال والمصاهرة، حيث ترتبط عائلة الرومي بأواصر المصاهرة مع عائلة الغانم البروجوازية السورية المقيمة في حي صليبة، حيث يتزوج عدنان الرومي والد عماد من ابنتهم زهرة الغانم، ويتزوج عماد الرومي من سمية الطاير ابنة العائلة السورية البسيطة، ودلال الرومي تتزوج من الدكتور عدنان المنزلجي من أبناء اللاذقية الأصلاء.

إن حملات الاعتقال ومطاردة المعارضين من شيوعيين وإخوان مسلمين في أواخر الثمانينات، وبطش النظام بهم وزجهم في معتقلات لا تصلح للحياة الآدمية، وممارسة التعذيب بكل قسوة وعنف، أوصلت عمر البيروتي إلى ما يشبه الجنون. ناهيك عن مفاسد رجال السلطة وابتزازهم للناس، وهذا ما حدث مع عبد العزيز الغانم، الذي كان يشتري مصالحه بالمال، وحين رفض مواصلة منحهم المال خطفوه ولم يعرف مصيره، كما قتلوا الشيخ الحلبي لزرع الفتنة بين الشيوعيين والاخوان المسلمين. كل ذلك دفع أهالي أحياء اللاذقية للخروج والتظاهر أمام مقر المحافظة، ففرقتهم الشرطة بالقوة والعنف. 

إن ما فعله النظام ورجاله في سوريا جعل البلاد من سيء إلى أسوء، وأفقد الناس الأمن والأمان، و”بقيت سيرة الغانم على كل لسان مثالاً لبؤس الحال، ومآل العباد هناك حيث لا أمن إلا لصمت صموت، فمن يستطيع كسر ذلك التابوت”.

عن الصباح الفلسطينية

شاهد أيضاً

عمر حلمي الغول

عمر حلمي الغول يكتب : نواقص القرار الاممي

نبض الحياة نواقص القرار الاممي عمر حلمي الغول بين مد وجزر على مدار 171 يوما …