ذكري معركة مخيم جنين ....استراتيجية عظماء علقت في أذهان الزمن .
بقلم الصحافية هبة موسي أبو ستة .
في مخيم جنين كان النصر ممزوجاً بالدم , ومختلطاً مع هوائه ونسماته , حينها كبر الصغار ونمي الزرع , غطي الفخر والصمود والبقاء على زوايا الأيام ومنحنيات السنين , فأصبح أمل التحرير والانعتاق من القيد كبيراً ومتوهجاً حاملاً صور الشهداء والأبطال على جدران ذاكرة تعصي على النسيان .
كان الهواء مشحوناً بالنصر والتكبير والثورة , خطوط رسمها الرجال في ساح الوغي أن لا تراجع ولا استسلام ولن يدخل العدو المخيم ,والأطفال لم يبالوا بما حدث , كبر المخيم في قلوب أبنائه وفي قلب كل من سمع بالمخيم وحكاية صموده ,حينما برز اسمه بقوة في أساطير التحدي وروايات البقاء .
هناك عيون أرهقتها ليالي القتل والموت , وأرهقها انتظار تحقيق الوعد , وعد الله بأن ينصر جنوده ويهزم جنود ابليس أجمعين , وعداً كان حقاً في كل شرائع وكتب السماء . كبر المخيم ليس ببيوته الضيقة ولا شوارعه الملتوية كأفعى أظلت طريقها , لكنه كبر كصخرة لا يمكن تحطيمها , أكاديمية تحدي تشع بالإرادة وتلهم الثوار .
وكان الوجع في المخيم كبيراً والفرح أكبر , يرحل الفرسان بلا وداع , ونظرات عيونهم الوادعة تحمل دموعاً ندية للوطن الجريح ,حينما عاث العدو في بيوت الأسود خراباً ودماراً , بعد أن كان عاجزاً عن الوصول لمخيم فقير وصغير رغم كل آليات الموت والدمار التي كان مدجج بها ...
أي مخيم هذا ؟؟!!!
كانت المقاومة من نوع مختلف , ووحدة وطنية تجلت بشكل واضح , مقاتلي السرايا والأقصى مع جند القسام وألوية الناصر وأبطال الجبهة الشعبية والمقاتلين الذين جاءوا من كل المدن والمخيمات ليشاركوا في معركة الدفاع المقدس عن المخيم الصامد , أسطورة صاغها الشرفاء الذين هبوا لتلبية نداء الوطن والدين .
خسائر فادحة لحقت بالقوات الصهيونية , وأعداد قتلي الصهاينة تتواصل بالازدياد رغم إمطار المخيم بقذائف وصواريخ عنيفة , لو سقطت على أكبر مدينة في العالم لأعلنت الاستسلام والهزيمة مبكراً . حكايات إنسانية طفت على السطح , ضفائر النساء دُفنت في التراب وداست عليها مجنزرات المجرمين , مخيم بأكمله تحول الي كومة من الركام كأن زلزال أصابه , والعشرات من الشبان تم إعدامهم , وأطفال فقدوا طفولتهم في أجواء الموت والقصف , وفي كل زاوية حُفرت مقابر جماعية لهم ,واُعتقل العشرات وزُج بهم في غياهب الزنازين .
إنه عش الدبابير كما أطلق عليه الصهاينة , فمنه خرج عشرات الاستشهاديين الذين نفذوا عمليات عسكرية نوعية , أوجعت المحتل في الصميم , وأربكت حساباته فقرر الانتقام من المخيم وأهله وإزالته عن خارطة الوجود . ...
في خضم المواجهة والتحدي وإجرام المحتل المتوحش , وحينما كانت دبابات وجرافات العدو الصهيوني ترتكب مجازرها ومذابحها في المخيم , خرج الاستشهادي راغب جرادات من جنين متوجهاً إلي مدينة حيفا , ونفذ فيها عملية نوعية , أحدث توقيتها فاجعة للمحتل , فقتل الاستشهادي اثني عشر صهيونياً عشرة منهم من العسكر وأُصيب العشرات .
أقسم المجاهدون أن لا يدخل المحتل المخيم إلا على جثثهم , وأوفوا بالقسم , فارتقوا شجعاناً أبطالاً وعشاقاً منهم أسد مخيم جنين محمود طوالبة شمس فلسطين التي لم تغب يوماً , وطه الزبيدي وعبد الرحيم فرج وأبو جندل وشهداء كُثر رحلت أجسادهم لكن أرواحهم بقيت تلازم الوطن في ليله ونهاره تمده بالصبر وتدفعه للبقاء .
مخيم قدم أبنائه قرباناً للأقصى والكرامة والعزة والشرف , فوهبه الدهر فخراً ونصراً .......إنه مخيم جنين .