تتبلور صورة دمشق في الوجدان العربي من خلال أبيات الشاعر، أحمد شوقي، "لولا دمشق لما كانت طليطلة"، وهي الأبيات التي تحفر في الذاكرة العربية صوراً مشرقة للوطن العربي، وتجعل لدمشق مكانة أثيرة في المخيلة العربية.
ولعل الظروف والمتغيرات والحقائق التي برزت مؤخراً على الساحة كانت دافعاً قوياً لبعض الدول العربية نحو التفكير جدياً في استعادة سوريا لمحيطها العربي، رغم آلام الماضي وما شهدته سوريا وشعبها، وهو ما شكّل مأساة في تاريخ العرب. من هذا المنطلق يمكن فهم تحرك دولة الإمارات العربية المتحدة والعمل على عودة الحياة في سفارتها في دمشق، وهو الأمر الذي يحمل في مضامينه دلالات عميقة تعكس المناخ العام الذي أخذ في التبلور موخراً.
إنّ التحرك الإماراتي يسهم بلا شك في دعم استقلال وسيادة ووحدة الأراضي السورية، والحد ما أمكن من تغلغل القوى الإقليمية التي أخذت تعبث في سوريا العرب، وتكشف عن مخططاتها ومآربها، كأنها تريد أن تصفّي الآن الحساب، وتؤكد أنّ وقوفها إلى جانب النظام لم يكن إلا في سياق حسبة سياسية ذات أبعاد مذهبية محضة!
إنّ ما تعرضت له سوريا الشعب والوطن من هجمات إرهابية لداعش وأخواتها وتدخلات عسكرية من كل حدب وصوب، أسهم في تدمير بنيتها وتبديد مقوماتها وتهجير شعبها، وهو أمر مرعب، لأنّ ثمة من تدخل بهدف نصرة السوريين وإنقاذهم من ويلات الحرب والإرهاب، وثمة من تدخل بغية التدمير والترويع والاستئثار بحصة الأسد من الغنائم بعد انقشاع غبار الحرب.
مملكة البحرين جارت دولة الإمارات، واتخذت خطوة مماثلة، لفتح صفحة جديدة في العلاقات، عبر إعلانها استمرار عمل سفارتها في دمشق. وقبل ذلك فتح الأردن حدوده البرية مع دمشق عبر معبر نصيب.
ومن المهم التذكير بأنّ جمهورية مصر العربية وعُمان تتمثلان في سفارتيهما على مستوى القائم بالأعمال في دمشق، بينما سفارات كل من الجزائر ولبنان يرأسها سفير. ولعل زيارة الرئيس السوداني عمر البشير موخراً لدمشق والتي أربكت تركيا وحليفتها قطر، ومقابلته الرئيس بشار الأسد تحمل أيضاً دلالات تتمثل في الرغبة في استعادة سوريا للحضن العربي.
إنّ المتابع للتطورات المتلاحقة للمشهد السوري، لابد أن يلاحظ التفاهمات الإقليمية والدولية لرسم المرحلة القادمة، وهو الأمر الذي دفع بالتحرك العربي لترتيب البيت المشترك، وعدم ترك الساحة لسطوة نفوذ إيران الفارسية وأطماع تركيا العثمانية، كما أنّ الدول العربية ربما رغبت في الاستفادة من الإرباك الذي تركه الانسحاب الأميركي من شرق الفرات، وهذا خلطَ الأوراق على نحو كثيف؛ فموقف روسيا من إيران غير واضح، وإسرائيل ترقب بحذر، والدول الأوروبية تركز اهتمامها على عملية الإعمار وعودة اللاجئين إلى سوريا، بعد إحلال السلام.
التوجه العربي الذي بدأت إرهاصاته بالتبلور ينبغي على القيادة السورية الترحيب به، وبالتالي دعم توجه المصالحة العربية، وطي صفحة الماضي، وإدراك أنّ الأطماع المحدقة بسوريا أبعد من إعادة الأعمار، بل السيطرة والاستئثار بتوجهات السلطة السورية، وتحويل دمشق إلى تابع مطلق لعمامة الولي الفقيه، كما صرّح من قبل قيادي بارز في الحرس الثوري الإيراني.
ويؤمل من دمشق أن تأخذ العبر مما حلّ بها من دمار؛ بسبب بعدها عن عالمها وحاضنتها العربية، وأن تدرك أنّ إيران أمست دولة فاشلة ومكبلة بالعقوبات الدولية، وأن تفتش في ذاكرتها، حيث كانت أحد ركائز العمل العربي المشترك، والضلع الثالث لمثلث النظام العربي الإقليمي إلى جانب مصر والسعودية، وهو ما أسهم لوقت طويل في توحيد الكلمة ووحدة الصف العربي والآمال المشتركة.
عودة سوريا للجامعة العربية خيارٌ استراتيجي يصب في مصلحة النهوض بمستقبل العلاقات العربية العربية، والتصدي لكل من يحاول أن يعبث بأمن الوطن العربي وسلامته وزعزعة استقراره.
كاتب ودبلوماسي سعودي سابق