قبل خمس سنوات، نفّذت "حماس" انقلابها في غزة وطردت منها كلّ ما له علاقة بالسلطة الوطنية الفلسطينية او "فتح". ادخلت "حماس" قطاع غزة في مأزق، قد يكون افضل تعبير عنه استمرار الحصار الاسرائيلي للقطاع في ظل لامبالاة المجتمع الدولي.
بعد خمس سنوات على الانقلاب الحمساوي، لم يعد المأزق مقتصرا على غزة والحركة الاسلامية التي كانت وراء الانقلاب. صار المأزق مأزق كلّ فلسطين بعد انسداد الافاق السياسية امام قيادة منظمة التحرير والسلطة الوطنية من جهة، وبعدما تبيّن ان الشعارات الكبيرة التي تطلقها "حماس" لا تخدم سوى المشروع الاسرائيلي من جهة اخرى. والمشروع الاسرائيلي هو بكلّ بساطة مشروع احتلال مدروس يستهدف الخروج من غزة من اجل وضع اليد على القدس الشرقية وقسم لا بأس به من الضفة الغربية ومواردها الطبيعية.
كان دوف فايسغلاس مديرا لمكتب ارييل شارون الذي نفّذ صيف العام 2005، عندما كان رئيسا للوزراء الانسحاب الاسرائيلي من غزة وصولا الى الحدود الدولية المعترف بها. قال فايسغلاس مبررا الانسحاب الذي تمّ من دون اي تنسيق مع السلطة الوطنية ان كلّ ما تريده اسرائيل من هذه الخطوة هو الامساك بطريقة افضل بالضفة الغربية، بما في ذلك القدس. من في حاجة الى التأكّد من هذا الكلام، يستطيع العودة الى المقابلة التي اجرتها "هآرتس" مع مدير مكتب شارون بعيد الانسحاب الاسرائيلي من القطاع.
هل كانت اسرائيل تجهل قوة "حماس" على الارض وقدرتها على السيطرة على غزة متى صار الوقت ملائما لذلك؟ الاكيد ان الاحتلال كان على يقين ان "حماس" التي تنتمي الى حركة الاخوان المسلمين، ستسيطر عاجلا ام آجلا على القطاع وانّ الشعارات التي ستعلن تمسّكها بها، بما في ذلك، ان "فلسطين كلّها وقف اسلامي" ستستخدم في خدمة تكريس الاحتلال للقدس وجزء من الضفة الغربية. وهذا ما حصل بالفعل للاسف الشديد.
بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزّة، كان الاجدر بـ"حماس" العمل مع السلطة الوطنية من اجل الانتهاء من فوضى السلاح واظهار الفلسطينيين في مظهر الجهة المسؤولة القادرة على بناء نواة لدولة قادرة على العيش بسلام وامان مع محيطها. بدل ذلك، راحت "حماس" تشجّع على تعميم فوضى السلاح وصولا الى انقلاب منتصف يونيو 2007 الذي كرّس وجود كيانين فلسطينيين بدل الكيان الواحد.
ترافق ذلك مع اطلاق صواريخ عبثية من قطاع غزة، راح بعض التافهين يصفونها بـ"القوة الرادعة" للاحتلال. في الواقع، كانت تلك الصواريخ موضع ترحيب اسرائيلي. ولمّا استنفدت من تسمّي نفسها "الدولة اليهودية" الغرض من اطلاق تلك الصواريخ، شنّت اواخر العام 2008 حربا على غزة انتهت بإعلان "حماس" ان اطلاق هذه الصواريخ "خيانة". بقدرة قادر، اصبح اطلاق الصواريخ خيانة بعدما كان في الامس القريب ذروة الوطنية وخطوة اولى على طريق الانتهاء من دولة اسرائيل!
حافظت اسرائيل على رؤوس "حماس" في غزة. لم تصفّ الاّ الذين كانت ترغب في تصفيتهم، كان مطلوبا ان تبقى غزة تحت سلطة الجناح الفلسطيني في حركة الاخوان المسلمين. ما الضرر من ذلك، ما دام المطلوب، اسرائيليا، في كل لحظة اظهار غياب المشروع الوطني الفلسطيني، علما انّ هذا المشروع القائم على حلّ الدولتين حيّ يرزق. انه البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي اقرّه المجلس الوطني في خريف العام 1988.
بعد خمس سنوات على انقلاب غزة، وفي ظلّ التطورات التي لا سابق لها التي يشهدها الشرق الاوسط، انتقلت ازمة القطاع الى الضفة الغربية. لم يعد هناك اي اهتمام عالمي في القضية الفلسطينية. هذا واقع ساهمت في صنعه حركة "حماس" التي رفضت ولا تزال ترفض المشروع الوطني الفلسطيني.
اكثر من ذلك، انها ترفض الاعتراف بأنّ تجربتها في غزة فاشلة بكل المقاييس نظرا الى ان الحصار على القطاع مستمرّ وان الناس فيه يزدادون فقرا وجهلا. ولكن ما العمل، عندما يكون هدف الاخوان المسلمين ممارسة السلطة ولا شيء آخر غير السلطة حتى بعد تحّول غزة الى سجن كبير.
بعد خمس سنوات على انقلاب غزة، انعكست ازمة القطاع على السلطة الوطنية التي لم تعد قادرة على متابعة المفاوضات مع اسرائيل في غياب مرجعية واضحة لتلك المفاوضات.
لم يعد لدى حكومة بنيامين نتنياهو من هدف سوى احراج السلطة الوطنية الفلسطينية التي هربت من هذا الواقع الى افتعال مشاكل صغيرة من النوع المعيب مع هذا الشخص او ذاك في ظلّ انسداد الآفاق السياسية. هل ستنفتح هذه الآفاق يوما، ام ان ما نشهده حاليا فصل آخر من المأساة الفلسطينية؟