نشرة دورية تعني بالترجمة عن الصحف والمجلات العالمية

نشرة مترجمة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر التوجيه السياسي

تصدر عن هيئة التوجيه السياسي والوطني

ياسر عرفات .... والبحر

محمود درويش

 

ومنذ عام وربع العام فقط، قفزنا من قلاع الجسد إلى البحر الذي إتضح، اتضحت سعتُهُ فاتضحت اسئلتنا، وصورتُنا  اتّضحت، لعلّ البحر الذي كان واضحا إزاءنا، وهلاميا فينا، قد نضج الآن في حياتنا ومصيرنا، بعد موقعة البطولة التراجيدية الأكثر غنى في دلالتها في تاريخ شرق البحر المتوسط، بحرٌ هو السؤال، والسؤال هو البحر: إلى أين؟ ألانّ البحر هو أكثر عناوين مصيرنا نتوءاً؟

نهض فينا أبطالُ الميثولوجيا القديمة في علاقاتهم بغضب الآلهة ورضاهم، تقدّم أوديس لينضم الينا فكان صغير السنّ والتجربة لأنه قليل العذاب المعاصر، وقليل المفارقة المعاصرة، ولأن في وسع زوجته أن تواصل مقاومتها في هدوء بالمماطلة في نسج ثوب الانتظار. وعلى زوجاتنا أن يتحملن أطنانا من القذائف الاميركية والاسرائيلية، والعربية هذه المرة! وعلينا ألاّ نكتفي بالسؤال عن البحر القادم، بل عمّا يليه، كأن لا نفكر الآن بما بعد ميناء طرابلس، بل بما بعده ميناء قرطاج مثلاً!

لم يعد على ياسر عرفات الفلسطيني الاغريقي الدلالة، أن يقود سفينة فقط، فتلك مهارة لا تحتاج إلى سحر كفاءته، وتلك إدارة حسابات لا تجدي نفعاً في التعامل مع قاع الأسرار وصراع الآلهة من حوله وعليه، فعليه أن يقود الموج، أن يقود الموج بحفنةٍ من الرجال الذين كلَّفتهم الأقدار بزراعة أجنة الزلازل في حقول التوازن الثقيل، عليه أن يكون وحيدا أكثر مما هو الآن وحيد، عليه أن يكون محاصراً أكثر مما هو الآن محاصر ..

وعليه: أن يقود نبض الموج. أن يردَّ على أسئلة البحر، أن يعطي للتراجيديا الاغريقية ـ الفلسطينية خاتمة تختلف، أن يُطلق صرخة غير مألوفة في أحد الفصول الدموية من مسرحية اللامعقول العربي السمج، أن يكون غامضا لتترقب الناس بُعداً مفهوماً وسط هذه الفضيحة، أن يكون واضحاً لينقضّ الجمهور على هؤلاء الممثلين الذين انحصرت أدوارهم الثورية والقومية والوطنية والشخصية في هدف واحد هو : ذبح الروح الفلسطينية.

وعليه : ان يطرد الجامعة العربية من إطاره، أن يعيدها إلى أي وزير خارجية عربي مبتذل.

وعليه أن يكون مهندسا للموج. وعليه أن يعتمد على شاعريته الخاصة ليختلف عما حوله، وقبل ذلك كله، قبل كل شيء: عليه أن يحيا نطالبه بأن يحيا.

عليه أن يفعل كل ذلك، وهو محروم من البرّ، وهو محرومٌ من البحر.

هل نُعذبه؟

نعم، نعذبه كثيراً لأننا وجدناه، ولم نجد سواه، هو شرط الخطوة التالية، وهو شرط ذكرياتنا.

هو شرط السؤال والجواب. هو شرط  حياتنا، مجرد حياتنا الآن، وهو شرط طريقتنا في الموت.

وعليه: أن يكون . فإما أن يكون الآن، وإمَّا ألا نكون الآن.

إذ، ليس في وسع تاريخ العلاقة بين البحر والصحراء فينا أن يتبلور في صياغةٍ أكثر توازنا بين الوضوح والغموض من الصياغة التي تبلورت فيه، قد نحبه وقد لا نحبه، ولكننا نحبه ونريده لانه رجل رجلٍ على مقاس قلوبنا التي تعجّ بتناقضٍ عواطفها، قلوبنا إلى لا تُساس، لأننا لم نُحكم مرةً واحدة في تاريخنا، كنا نُحْتل وكنا نذبح وكنا نطرد، ولكننا لم نُحْكم مرة واحدة في تاريخنا، وقد اخترنا حاكمنا : ياسر عرفات لأن بعضنا يحبه ولأن اكثرنا لا يحب  أعداءه، نحن الذين لا تُساس عاطفتنا من فرط ما يتجاذبها البحرُ والصحراء، والدولةُ والحلم، البيت والحقيبة، السلم والحرب، الواقع والأسطورة .. قد اخترنا بحرية كاملة أن يكون حاكمنا ياسر عرفات.