نشرة دورية تعني بالترجمة عن الصحف والمجلات العالمية

نشرة مترجمة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر التوجيه السياسي

تصدر عن هيئة التوجيه السياسي والوطني

ترجل الفارس ولم تسقط الكوفية

بقلم : د. أحمد الطيبي

 

قبل عام بالتمام والكمال، ترجل فارس القضية، ورمز الأمة، سيد الشهداء، وأول المرابطين في أرض الرباط، ترجل أبو عمار لكن كوفيته لم تسقط.

لم يكن لهذا الرجل الرمز من مصير آخر سوى ما كتبه له الله، كان من الذين صدقوا ما عاهدوا الله والأمة. لم يبدل أبو عمار طيلة مشواره ومسيرته الطويلة، خمسون عاماً من الكفاح والنضال، ولم يتعب من النضال ولا مل الكفاح.

خمسون عاماً حمل أبو عمار قضية الامة وقضية الشعب على كتفه، أخرجها من ملفات وأدراج اللاجئين، زرع الحلم الفلسطيني ورعا الهم الوطني، وبنى الثورة وأطلق رصاصاتها الأولى في ميادين القتال وساحات الوغى، لم يطلق رصاصته الأولى من شرفات القصور، ولا من صالونات ومزادات العهر السياسي في أيام التردي العربي.

آمن أبو عمار طيلة مسيرته النضالية أن الشعب الفلسطيني، "شعب الجبارين" لا يمكن له أن يهون ولا أن يستكين للظلم والعدوان مهما طال النفق واشتدت حلكه الظلمات فيه. كان مؤمناً بعدالة قضية شعبه وحقه بالحياة الكريمة الآمنة، سار على درب الآلام والاشواك، تحمل من ظلم ذوي القربى، وما لان، واجه العدو في الداخل والخارج، وما انتصر إلا لفلسطين، كانت هي قضيته الأولى وكان هو فينقيها الذي انتفض من الرماد في وقت كانت فيه الاحلاف والتحالفات الدولية والاقليمية كلها تسعى لوأد فلسطين وتقاسمها وتشتيت ابنائها، وتدنيس قدسها.

لم يكن أبو عمار مجرد رئيس أو زعيم أو قائد. كان هو الرمز بامتياز في زمن عزت فيه الرموز على الامة والشعب. امتشق أبو عمار قرار فلسطين المستقل سلاحاً في وجه الخصوم قبل الاعداء، والاخوة قبل الاصدقاء، فعادت فلسطين لنفسها وذاتها عروس الامة وتاجها وعنوانها، ولم يعد ممكناً حصارها أو تغييبها أو بيعها لا هي ولا ناسها في سوق النخاسة، فانتصرت فلسطين الغائبة المغيبة بأبي عمار ومعها انتصرت الأمة لرمز أبا أن يساوم أو يستسلم، بل أصر على الحق والعدل، وعلى الرباط في ارض الرباط.

عشرون عاماً بالتمام والكمال عرفت أبو عمار زعيماً ورمزاً وقائداً، كرمني وشرفني بالعمل معه مستشاراً، كان تكريماً مهيباً بقدر ما كان تكليفاً لا يمكن الاستهانة بجسامته وحجمه، فليس سهلاً ان تعمل مع رمز امة بأكملها فما بالك لو كان هذا الرمز أبو عمار دون غيره.

عرفت أبا عمار طيلة عقدين من الزمن عن قرب، واقتربت منه ما استطعت فوجدت فيه القائد الرمز والأب الحنون والأخ الموجه والمقاتل الصلب، والمفاوض المحنك، ورجل الصعاب.

كان أبو عمار قد أصبح الرقم الصعب في المعادلة الفلسطينية، المعادلة التي نفض عنها ما تراكم عليها من غبار تمهيداً لدفنها وطرحها، معادلة عصية لا يمكن تجاهلها ولا شطبها، لا محلياً ولا إقليميا ولا دولياً.

كان سياسياً من الطراز النادر، يعرف من أي تؤكل الكتف، متيقظ يلتقط الإشارة مهما كانت صغيرة ويعرف دلالتها، ادرك انه لا بد له من مواجهة كل المؤامرات، وكانت الوحدة الحقيقية البعيدة عن الشعارات الزائفة والمأجورة حرز الأمن والأمان في عرفه ومعتقده، ففتح صدره على رحابة لم تتوفر لاي زعيم من قبل، فاتسع صدره حتى للأولئك الانتهازيين الذين كانوا يطعنونه ويقدحونه ليحصلوا على جواز سفر لقصور الرؤساء ولبلاط الملوك والامراء، علهم يقبضون المعلوم، كان يفتح لهم صدره وهو يعلم خطاياهم ويدرك حجم خطيئتهم معتقداً أنه بذلك قد يحتوي الصالح والطالح، منذ بيروت مروراً بتونس وحتى رام الله.

وفي رام الله كان الحصار المجنون والأرعن، وصمد أبو عمار وما هان، وظل شامخاً منتصب القامة، حاصروه وعزلوه، وظلت كوفيته رمزاً ولم تسقط، ولهذه الكوفية قصة.

اذكر انني في احدى المرات التي دخلت فيه المقاطعة بعد فك الحصار الأول قلت له وأنا امسك بكوفيته. " هذه كوفية العرب إن سقطت سقط العرب"، فانفرجت اساريره وكأنه طفل قد انتصر.

ترجل أبو عمار ورحل عنا لكن كوفيته لم تسقط، كان هناك من شعروا في أوج الحصار أن حصاره يحرجهم، أما نحن فشعرنا بعد غياب ابي عمار ورحيله أن رحيله يريحهم من دم عثمان فلسطين.

اذكر لحظة دخولي إلى غرفتك الصغيرة دقائق قبل رحيلك إلى باريس رأيتك مريضاً شاحباً فدمعت عيناي فبادرتني بعد ان جمعت قواك الخائرة "أنا راجع يا أحمد" ... وقفنا وبعد ان صعدت مروحيتك إلى السماء، وقفنا  - أبناؤك - توفيق الطيراوي وعزام الاحمد وأنا نلوح لك كالاطفال الذين يخافون من الفراق واليتم، وكان شعورنا أن هذا هو التحليق الأخير لطائر الفينيق، فدمعت عيوننا الثانية والثالثة.

سيدي الرئيس، لم تكن فرصة لاتحدث اليك طيلة هذا العام..فعذراً !

واسمح لي ان ابلغك بأن شعبك ما زال صامداً، وان الحواجز العسكرية قد زادت وان جدار الفصل العنصري يتلوى كالأفعى في الأرض الفلسطينية تماماً كما هي الخرائط التي كانت تفردها للذين ارادوا ان يسمعوا أو لم يريدوا. المسجد الأقصى ما زال هناك شامخاً وكأنه كان ينتظر قدومك للصلاة فيه أو للصلاة عليك، وغزة ما زالت تلاطم المخرز رغم نزوح عساكر الاحتلال، وبعض ابنائك هناك يسيؤون استخدام السلاح. أما زملاؤك من الملوك والرؤساء فهم كما عهدتهم فلم يتغير شيء فيهم والعراق الذي احببت ما زال ينزف نزفاً موجعاً، وكما كنت قد قلت لي فهم يريدون تقسيمه. واذا اردت ان تبتسم قليلاً يا ابا عمار فاخوانك في موريتانيا زادو من طول الفراش الأحمر لسلفان شالوم وذلك في نفس اليوم الذي سقط فيه الشهداء في طولكرم وجنين وتهدمت المنازل في نابلس والقدس الشريف. أما تلك المرأة التي جاءت مرة إلى مكتبك في غزة في يوم عيد تتوسل اليك بانها تريد اطعام ابنائها فذرفتك عيناك الدموع بحضوري فيقيناً أنها رحلت حزينة ربما دون ان تستطيع توفير العيش الكريم رغم التفاتتك الحنونة اليها.

أسمع صوتك احياناً يهدئ من روعي وروع من خلفت وراءك تشد من أزرهم وتبتسم رغم الصعاب لتنير فينا جميعاً روح التفاؤل واليقين بأن شبلاً من اشبال شعبنا وزهرة من زهور بلادنا سيرفع علم فلسطين عالياً فوق كنائس ومساجد القدس وفوق اسوارها .. يا أيها الأب الذي ما فتئ يسأل عن ابنائه وبناته وشعبه حتى وهو مسجى في قبر داخل غرفة هي اوسع من الغرفة التي كان يعيش فيها محاصراً.

ترجلت يا أبو عمار وما سقطت كوفيتك، ترجلت وسيبقى شعبك يذكرك رمزاً رغم المحاولات لمحو ذكراك واسمك، وهو في رباط إلى يوم الدين، وها هو اخيك ورفيق دربك أبو مازن يكمل المسيرة على طريق أهل الرباط يمخر عباب الامواج العاتية والعواصف المتدافعة من كل صوب، يواصل الطريق نحو بر الأمان لهذا الشعب على طريق الدولة وعاصمته القدس الشريف.

قال تعالى في محكم تنزيله، بسم الله الرحمن الرحيم: (من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلو تبديلا). صدق الله العظيم.

ذهبت ولم ترجع. ذهبت ولم تعد رغم وعدك. فهل سيعود شعبك رغم وعدهم يا أبو عمار؟.

تحية لك والدي العزيز، تحية لك سيدي الرئيس.