نشرة دورية تعني بالترجمة عن الصحف والمجلات العالمية

نشرة مترجمة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر التوجيه السياسي

تصدر عن هيئة التوجيه السياسي والوطني

أفضـــل الايمان كـــذب

 

الباب الثاني

من كتاب أسياد البلاد

ترجمة : عليان الهندي

 

’سمعت الهزة السياسية التي وقعت في 17 أيار عام 1977 جيداً في صفوف المستوطنين اليهود بالضفة الغربية الذين شعروا أنهم مثل العرسان على منصة الليكود بقيادة مناحيم بيغن أشد المؤمنين بأرض إسرائيل الكاملة الذي حقق فوزاً في الانتخابات التي جرت في ذلك اليوم. وبتلك المناسبة كتب مئير هار نوي مقالاً ذكر فيه أن :"القلب تنقصه دًقة وتوقف التنفس للحظة وإذ بالعيون ترى، لكن القلب لا يصدق، ففي اللحظة التي سمعت فيها نتائج الانتخابات انطلقت أصوات الفرح من كل الزملاء ... رقص وغناء كأننا نعيش لحظة الاستقلال في تشرين الثاني 1947 ... فغير المتوقع حدث ... وخرج قدماء التنظيمات السرية من مخابئهم وبلحظات أصبحوا شخصيات سياسة تقود الشعب والدولة في السنوات القادمة ... ولن تعود الليالي التي نخشى فيها الاخلاء ولن يكون هناك صراع دائم على برميل مياه إضافي من القاعدة العسكرية. والحدث الأهم من نتائج الانتخابات هو تحويل رؤيتنا إلى سياسة رسمية تعمل بها الدولة بعد سنوات من الحرب مع الحكومة. وبعد تلك السنوات التي شهدت مواجهات مع الحكومة سنضع سلاحنا على الرف بعد سماع دقات أجراس المسيح"[1]. وفي المجال نفسه صرح الحاخام موشية ليفنغر.

"ما علينا قمنا به والآن جاء دور الحكومة"[2].

ولم ينتظر بيغن والمستوطنون حفل آداء اليمين القانونية في الكنيست لقيام الحكومة الجديدة بعملها. فبعد يومين من فرز نتائج الانتخابات وبرفقة طواقم التلفزة وصحافيين من البلاد والعالم زار رئيس الحكومة المنتخب مستوطنة كدوم في السامرة كضيف شرف في حفل إدخال التوراة إلى المستوطنة التي فرضت على المعراخ في نهايات حكمه، واستقبل بيغن وزملاؤه أرئييل شارون وغيئولا كوهين من الليكود وشركاؤهم يوسف بورغ وزبولون هامر من المفدال بالرقص والغناء، وخلال الحفل أعلن بيغن :"هذه الأراضي هي أراض محررة وتدعو الحكومة الجديدة الشباب للاستيطان في هذه البلاد". ومع ذلك بدا أن بيغن فهم فوراً هامش الحياة كرئيس للمعارضة الذي يتحرك ويصرح بلا قيود وبين القيود المفروضة على رئيس الوزراء حين أشار في نفس اللقاء "أننا لن نضم يهودا والسامرة" مبرراً ذلك "بأن تلك أرضنا ولا نتحدث عن أراض أجنبية". وفي تلك الزيارة ولدت المقولة المشهورة التي أطلقها بيغن "سيكون الكثير من ألون موريه" ولن تكون هناك حاجة إلى كدوم[3]. تصريحات رئيس الوزراء المنتخب والصور المنشوره له وهو يحتضن كتاب التوراه تحت المنصة الكبيرة المحاطة بالمستوطنين على قمة تلة جرداء في المناطق أثارت خلافات وردود فعل دولية شديدة. وفي غضون ذلك استعدت وزارة الخارجية لانعكاسات الأوهام على مكانة إسرائيل الدولية.

وفي الوقت الذي تواصلت فيه ردود الفعل الدولية على تصريحات رئيس الحكومة المنتظر، وصل وفد يضم ستة أعضاء من سكرتارية غوش ايمونيم هم حنان بورات والحاخامان موشيه ليفنغر واليعازر فيلدمان وغرشون شيفط وأوري إيليتسور ورجل عين حارود يئير بن آري إلى منزل مناحيم بيغن رئيس الوزراء المنتخب في تل أبيب، وسلموه مخططا تفصيليا للاستيطان الفوري في يهودا والسامرة خلال صيف 1977 تضمن مدخلا وثمانية فصول وملحقا وخارطة للضفة الغربية رسمت عليها المستوطنات الموعودة وعددها اثنتا عشرة مستوطنة من أنواع مختلفة، وتتطلب السيطرة على الأراضي خلال أشهر معدودة. أما بيغن المنتشي من الانقلاب السياسي ومن الثورة التي حدثت في حياته ومكانته، أعلن أمام الستة عن "استعداده وموافقته على استلام الملف"[4]. وإثر معلومات "سرية" وصلت لهم حول التعيين المتوقع للصديق أرئييل شارون في وظيفة "الوزير ذي العلاقة بالاستيطان" قام المستوطنون بزيارته ووعد هو ووزير الدفاع الموعود عيزر وايزمن بدعم الاستيطان في المناطق، وأعلنوا أن مكاتبهم مفتوحة دائماً أمام أعضاء غوش ايمونيم[5]. وفي غضون ذلك قدم سمحا ايرليخ زعيم الليبراليين في الليكود نصيحة  كانت في مكانها لبيغن "بالتوقف" عن التصريحات السياسية. ولأن الواقع المعقد بدأ يدق على شبابيك رئيس الحكومة المنتخب حدثت المواجهة الأولى بين رئيس الحكومة والرئيس الامريكي في البيت الابيض في 19 تموز عام 1977 حيث سمع بيغن من الرئيس الامريكي جيمي كارتر أنه يصر على الموقف التقليدي للولايات المتحدة الذي يعتبر المستوطنات غير شرعية وتشكل خرقاً لقرار 242 الصادر عن الامم المتحدة، وأن المستوطنات تعتبر عائقاً أمام السلام. من جهته رد بيغن على الرئيس الامريكي بقوله إن موقف الولايات المتحدة يبلغ من العمر عشرة اعوام (منذ عام 1967) بينما موقف الشعب اليهودي يبلغ من العمر 3000 عام وأن المستوطنات مرتبطة بأمر تاريخي. وبدأ ينظر إلى الرئيس الامريكي ويقول له :"في بلادك سيدي الرئيس هناك عدد من المدن التي تحمل أسماء مأخوذة من التناخ وأحد عشر موقعا اسمه الخليل وخمسة أماكن باسم شيله وسبعة أماكن باسم بيت لحم والخليل، وهل يعقل أن يقوم أحد حكام الولايات بمنع اليهود من السكن في هذه المناطق ؟ ... ونفس الوضع ينطبق على حكومة إسرائيل فهي لا تستطيع منع اليهود من الاستيطان في الخليل الاصلية أو في بيت لحم الاصلية أو في بيت إيل الاصلية أو في شيلة الاصلية. واضطر كارتر إلى الاكتفاء بوعد من بيغن بعدم قيام حكومة إسرائيل "بمفاجأته" ووافق على توسيع المستوطنات القائمة[6] .

بعد ذلك اعتبرت الحكومة الإسرائيلية نفسها حرة في توسيع المستوطنات بعد موافقة الرئيس الامريكي عليها، لكنها ،في نفس الوقت، لم تمتنع عن إقامة مستوطنات جديدة. وكان موقف بيغن يشير إلى حق كل يهودي بالسكن في أي مكان يريده في أرض إسرائيل، وعلى الحكومة عدم التدخل في ذلك. من جهته، لم يتردد كارتر في انتقاد حكومة بيغن بسبب سياستها في المناطق، وكرر في كل تصريح أن المستوطنات غير شرعية، وهي عائق أمام السلام. من جهته لم يكن بيغن غير مكترث بالمطلق للضغط الامريكي، ففي اجتماع عمل عقده مع حنان بورات عشية رأس السنة عام 1977 من أجل البحث في خطة غوش ايمونيم للسيطرة على أراض لإقامة المستوطنات الاثنتي عشرة الجديدة، أوضح أن هناك ضغوطا كبيرة من الداخل والخارج وهو مضطر لانتظار موافقة الحكومة على الاستيطان. وأضاف رئيس الحكومة الجديد أن الوقت غير مناسب للبحث في الخطة، ونصح طلائع المستوطنين في غوش عتصيون بالعمل وقال :"اعملوا على طريقة حرب التحرير وانظموا أنفسكم في المنطقة ، وبعد قيامكم بذلك سيكون سهلا علي القول أن ابنائي انتصروا علي ! وأنه لا يعقل بأن أقوم انا مناحيم بيغن بإخلاء المستوطنين عن أرض إسرائيل". أقوال بيغن فاجأت بورات وزملاءه في غوش ايمونيم فالطابع المسيحي للأشهر الأولى والاحساس بأن السماء وحدها هي حدود المشروع الاستيطاني تغيرت بمشاعر ثقيلة وبتساؤلات مثل، هل تنوي الحكومة الجديدة إدارة ظهرها وإغلاق الصندوق ووضع صعوبات في طريقهم[7]. وعشية تنفيذ خطة إقامة اثنتي عشرة مستوطنة جديدة على الأرض استدعي بورات وزملاؤه مرة أخرى إلى رئيس الحكومة الذي قدم لهم تقريرا عن قرار الحكومة الداعي إلى إقامة ستة أنوية استيطانية فقط تقام في الشتاء ولا تسكن فيها عائلات، بل ذكور فقط ويلتزمون باللباس العسكري ويتواجدون داخل معسكرات الجيش. وأبلغهم بيغن أن هذا القرار يلغي الاتفاقات السابقة. وردأ على ذلك اتهم بورات وزملاؤه رئيس الحكومة بالتراجع عن وعوده. غير أن بيغن أبلغهم أنه لم يتراجع عن وعوده. وأبلغه المستوطنون أنهم سيذهبون من دون اذن، فرد عليهم من يذهب فسوف نخليه بالقوة[8] .

غير أن المخاوف زالت بسرعة فقد وضع الوزير أرئييل شارون ،صديق المستوطنين منذ وقت طويل، نفسه في وظيفة الملاك الحارس عليهم، وقدم لهم ما ينقصهم. فمعارضة كارتر وتردد بيغن ورأي زملائه في الحكومة لم تبق انطباعاً عن هذا الرجل الذي قدم إلى الليكود مؤخراً بعد حصول حزبه "شلومتسيون" على مقعدين في الكنيست فقط والذي حرض المستوطنين على الحكومة السابقة لن يتوقف الان عن البناء في المناطق تحت غطاء مناطق أثرية وقواعد عسكرية مع السيطرة على الأراضي بطرق الخداع بهدف إعاقة العملية السلمية. وكعادته نفذ ذلك بكل قوة وحتى دون مشاورة الجهات الحكومية ودون وضع بنيه تحتيه مناسبة لتأسيس المستوطنات الجديدة. وفي نهاية كانون الأول عام 1977 عرض شارون على الحكومة خارطة الاستيطان الخاصة به في المناطق، وبدأ مشواره الطويل لتغيير شامل للخريطة الجغرافية والسياسية والديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والامنية لدولة إسرائيل. وبعد رفض بيغن تعيينه وزيرا للدفاع استجاب بيغن لطلب شارون تعيينه وزيرا للزراعة وهو منصب اعتبر صغيراً وغير مهم، وكتعويض له سلم شارون رئاسة لجنة الوزراء لشئون الاستيطان. وكرئيس للجنة وبصفته مسؤولاً عن السيطرة على الموارد الارضية والمياه بواسطة وزارة الزراعة، أصبح أرئييل شارون رافعة كبيرة لتخطيط سياسة الاستيطان التابعة لليكود والاستيطان الذي يفكر فيه وينفذه. وعملت اللجنة على وضع مكان لكل مستوطنة وميزاتها وحجمها ومساحتها في المدى القصير والبعيد وإمكانية التشغيل بها والبحث عن الجهات المسئولة عن إقامتها. وتطرقت قرارات اللجنة إلى حجم مشاركة الدولة في تخصيص الأراضي والبنية التحتية ونفقات البناء، كذلك استخدمت اللجنة كأداة بيد شارون للسيطرة على أراضي الضفة وتطويرها واسكانها تحت غطاء أعمال حكومية قانونية وشرعية ومخطط لها .

وفي جلسة اللجنة التي عقدت بتاريخ 29 كانون أول عام 1977 عرض شارون خطة الاستيطان الخاصة به. يذكر أن الخطة التي اعتمدها شارون كان قد استمدها من الخطة الاستيطانية التي وضعها البروفيسور ابراهام فيكمن من التخنيون، والتي عرضت على رئيس الوزراء اسحاق رابين قبل عام من ذلك الوقت، وكان شارون يشغل منصب مستشار في مكتب رئيس الحكومة. وكانت الخطة تشبه الدمج بين خطة ألون وبين نظرية الكتل (القبضات) التي تبناها موشيه ديان، وتضمنت ثلاثة بنود أساسية هي :الاول، إقامة مستوطنات مدنية – صناعية على طول ظهور الجبال في الضفة الغربية تكون من ضمن مهامها السيطرة على الشاطئ. وتكون هذه المستوطنات "العمود الفقري المقابل"  ومهمتها ايجاد قطاع تطوير جديد في الجزء الداخلي من أرض إسرائيل، ووقف تركيز تجمع السكان اليهود في المناطق الساحلية. الثاني، الدفاع عن الحدود الشرقية، وبقوة هذا البند اقيمت مستوطنات جديدة على طول نهر الاردن من بيت شان حتى البحر الميت. وحتى ذلك الوقت، أقامت حكومة حزب العمل بروح خطة ألون سبعاً وعشرين مستوطنة في غور الاردن. وتضمنت الخطة شق شوارع عرضية من الشرق إلى الغرب وإقامة مستوطنات جديدة لحماية الشوارع الجديدة. الثالث، تضمنت الخطة إقامة حاضن من المستوطنات اليهودية حول الأحياء العربية في القدس "لتعزيز مكانة العاصمة"، وكان مقرراً لهذا الحاضن أن يمتد من غوش عتصيون وإفرات ومعاليه أدوميم في الشرق وغفعات زئيف وبيت إيل في الشمال[9] .

وبالنسبة لشارون فقد كانت كل الطرق مهيأة لتنفيذ خطته، وبدأ يعمل بشكل مكثف ومنهجي في بناء أكبر عدد من المستوطنات في الضفة في أسرع فرصة ممكنة، وتوزيعها على مناطق واسعة قدر الامكان في كل أنحاء الضفة الغربية. ووضع هذا الهدف، جانبا، الاعتبارات الاقتصادية والأمنية والأخلاقية والهندسية والبيئية، ووعد شارون الوزراء بإسكان مليون يهودي في المناطق حتى نهاية القرن العشرين. أما خطة وزير الدفاع عيزر وايزمن التي حملت روح خطة ألون فلم يكتب لها النجاح أمام خطة شارون والطاقة المفجرة منها. وتضمنت خطة وايزمن إقامة ست أو سبع مدن جديدة في المنحدرات الشرقية للضفة الغربية بهدف الدفاع عن الحدود الشرقية، وتتطلب إقامتها مصادرة أراض، ولم تهدف إلى تخريب فكرة تقسيم البلاد. وعلى أية حال، فقد ولدت الخطة ميتة[10]. لأن العناصر الايدلولوجية المتوفرة في خطة شارون خاطبت كثيرا مشاعر الوزراء، وأعلن شارون مفتخرا "أنني الوزير الوحيد التابع للمباي في حكومة الليكود، ولا أريد أن تسجل أقوالي في برتوكول، عليكم دراسة ذلك جيداً، ففي اللحظة التي تقررون فسوف أقوم بذلك"[11]. وفي اجتماع الكنيست وقف شارون ووعد بصوت مرتفع أن استيطانا سينفذ وسيكون واسعا جداً، وأكثر مما كان في الماضي[12]. لقد قال وفعل .

ومزود بخرائط مفصلة قام شارون ومساعده لشؤون الاستيطان أوري بار أون بالتجول من تلة إلى تلة ومن جبل فارغ إلى آخر للبحث عن مواقع للمستوطنات. وكان الاعتبار السياسي الاستراتيجي هو الحاسم في اتخاذ قرار موقع المستوطنة. والمواقع المختارة لإقامة المستوطنات عليها تطل على المناطق وكانت مثل مواقع المراقبة، وحدّت من إمكانية توسيع قرى الفلسطينين القائمة منذ مئات السنين. وكانت النية غير الخفية لشارون هي تخليص الأرض وإفشال إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقبلية قابلة للحياة وذات تواصل اقليمي معقول. وفيما يتعلق بالرجال والنساء الذين حددوا مكان سكنهم الجديد على التلال الوعرة فقد استمدوا مياههم من ناقلات المياه، وأناروا أماكن سكناهم بنور كهرباء ضعيفة من محولات كهربائية، ووعد شارون طلائعيي الاستيطان في المناطق المحتلة بأن الأيام الجميلة والمريحة لن تتأخر[13]. ونشرت في وسائل الاعلام معلومات عن نقاط استيطانية جديدة أقيمت سراً وباتفاق سري بين قيادة غوش ايمونيم وبين الحكومة تقضي باقامة 12 مستوطنة جديدة يتخفى سكانها بلباس الجيش الاسرائيلي. شارون لم ينف، وفي رده على الاستفسارات في الكنيست أعلن شارون أن "الخطط الحكومية للاستيطان تتلائم مع الخطوات السياسية لاسرائيل". ويبدو أنه قصد خطته التي عرضها على الحكومة في نهاية كانون أول عام 1977 واعتبر ذلك موافقة من الحكومة على تنفيذها كما يراها هو[14] .

 

مسار الالتفاف على الحكومة

بذلت وزارة الزراعة بالتعاون مع وزارة البناء والاسكان جهودا كبيرة لتوسيع المستوطنات اليهودية في المنحدرات القريبة من سلسة جبال الضفة الغربية وشمال القدس، واستثمرت موارد كثيرة في تطوير المراكز المدنية في المفترقات الرئيسية، وشقت الشوارع والطرق بهدف أساسي وهو منع تواصل المناطق السكنية الفلسطينية من جانبي الخط الاخضر-قطع المناطق الواقعة غرب جنين عن نابلس وقطع منطقة نابلس عن شمال رام الله، وقطع كل المناطق عن قرى وادي عارة والمثلث بهدف وضع إسفين استيطاني بين أقسام الشعب الفلسطيني، وإجهاض التوجهات لخلق كيان مستقل ثقافياً وسياسياً داخل دولة إسرائيل. وبمسار الالتفاف على الحكومة وحسب تقاليد مؤسسات "ب" من أيام قبل قيام الدولة أصبحت الحركة الصهيونية مسؤولة عن المساعدة في تنفيذ مشاريع الاستيطان التي تخطط لها غوش ايمونيم في قلب المناطق السكنية الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، نسقت لجنة الوزراء برئاسة شارون برامجها مع الوزارات المختلفة من أجل جذب انتباه الجمهور الواسع وغير الايدولوجي إلى مستوطنات شمال السامرة. وساهمت الامتيازات الاقتصادية والوعود بتحسين مستوى المعيشة في جذب الاف الاسرائيليين، خاصة العائلات الشابة الحالمة "بشقة منفردة على بعد خمس دقائق من كفار سابا". إلا أن المشروع الذي قام به متعهدو شارون قد فشل[15] .

وخلال السنوات العديدة،التي تعتبر سنوات شارون الجميلة، زرعت عشرات المستوطنات في أراضي الضفة الغربية، وألقيت المنازل المؤقتة في كل مكان، وكأن مزارعاً ضخماً -العنصر الصهيوني الحقيقي- هو الذي زرعها[16]. لكن اليد الزراعة ’وجهت جيداً نحو مفترقات الطرق الرئيسة ونحو مداخل المدن الفلسطينية الكبيرة، واهتم أن لا تهجر أي مستوطنة. وخلال عام 1977 أقيمت مستوطنات ألكناه وبيت أيل وحلميش وكوخاف هشاحر ومغدال عوز وسلعيت وكدوميم وريمونيم وشفي شمرون وتقوع. وأقام شارون من عام 1978-1979 مستوطنات مفوء دوتان وألون موريه وارئييل وكفار تبوح وكرني شمرون وشدموت محولاه وشيلة وتومر. وفي السنوات الثلاث القادمة (1980-1982 التي لم يشغل في نهايتها شارون منصب وزير الزراعة) سيطرت روح وزير الزراعة أرئييل شارون ومخططاته على الطابع العام لبناء مستوطنات- اللحظة. وبهذه الطريقة أيضا بنيت مستوطنات افرات وأشكولوت وبرقان وغفعون هحداشاه وفيرد يريحو وحومش وحيننيت وحرميش ويفيت والكرمل ومعاليه شمرون ومعاليه مخماس ومعاليه عموس ومتتياهو ونافيه دانيئييل ونكوديم وناحل إليشع وناحل حمدات ونعمي وعطيرت وعيلي زهاف وعلمون وعناب وبيني حيفر وبسجوت وشكيد وتيلم. وفي عام 1983 منح رجل الحزب الليبرالي سمحا ايرليخ رئاسة لجنة الوزراء لشؤون الاستيطان إلى شخصية من حركة هتحيا ،البرفسور يوفال نئمان، الذي شغل المنصب حتى الانتخابات التي أجريت في أواخر عام 1984. وخلال هذه الفترة أقيمت مستوطنات الفيه مينشه وإسبار وغنيم ودولب ويتسهار وكرمي تسور ومغداليم ومعاليه لبونه ومتسودات يهودا وناحل إفنات وعمونئيل وعتنئيل وكريات نطفيم وشعري تكفا[17]. ولم تنجح كثير من هذه المستوطنات بتعزيز وضعها وظلت مثل الاحلام العبيثة في المنطقة، أو كمستوطنات الوهم حسب الصيغة المعكوسة لحجاي سيغل الذي سخر من أسلوب اليسار[18].

 وبعد أكثر من خمسة وعشرين عاماً من إقامة هذه المستوطنات لم يبلغ عدد سكان بعضها بضعة عشرات من الاشخاص، ففي تيلم على سبيل المثال التي اقيمت عام 1982سكنها حتى عام 2000 سبعة وتسعون شخصاً فقط[19]. أما مستوطنات مثل يفيت وغنيم واشكولوت ونعمي ومغداليم فقد بلغ عدد سكان كل واحدة منها مئة وخمسين شخصاً، أي ما يقارب عشرين عائلة وظلت هذه المستوطنات تعاني من خلل رغم عمرها الممتد لأكثر من عشرين عاماً[20]. ورغم ذلك فقد سارت خطة شارون بشكل جيد حيث انتشرت على أراضي الضفة الغربية النقاط الاستيطانية وشقت الطرق اليها وكذلك شقت الشوارع الالتفافية التي استخدمت من الناحية العملية للمستوطنين فقط. أما أراضي الفلسطينيين فقد مزقت وقطعت بالطول والعرض، وسلبت من قبل المستوطنين وجميع حكومات اسرائيل. ومع مرورالأيام وبعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية اقيمت في هذه الطرق عشرات الحواجز التي اعدت بالاساس للدفاع عن سكان المستوطنات، ومنع السكان المحليون من التحرك بحرية في أراضيهم. وأصبح داخل مناطق الضفة الغربية دولتان منفردتان لشعبين عدوين، هما دولة فلسطين ودولة المستوطنين، ولكل دولة منهما طرقها المنفردة وخدماتها الخاصة بها، وكذلك القوانين المختلفة كليا بين الدولتين . 

بين يميت وبين يهودا والسامرة                                          

وجاءت زيارة الرئيس المصري انور السادات إلى القدس في شهر تشرين ثاني عام 1977 وعملية السلام مع مصر اشارة لمعظم الإسرائيليين أن عصرا جديداً من السلام سيحل في المنطقة. وفي المقابل، كان عصر السلام بالنسبة للمستوطنين بداية لقرب جهنم. أما أرئييل شارون فقد بدأ العمل بهدف تحديد سير المفاوضات مع مصر، وخوفاً من إلزام الحكم الذاتي إسرائيل بالامتناع عن إقامة مستوطنات جديدة وافقت الحكومة الجديدة على اقتراح شارون إقامة ثلاث مستوطنات جديدة كل شهر[21]. وفي غضون ذلك انتشرت شائعات في صفوف المستوطنين تتحدث عن نية بيغن اخلاء مستوطنات في سيناء بعد زيارة انور السادات الى البلاد ودخول المفاوضات مع مصر مراحل متقدمة. وإثر ذلك قام وفد يضم قادة المستوطنين بزيارة رئيس الحكومة عشية توجهه إلى كامب ديفيد للاستفسار. وحذر حنان بورات وهو الاكثر أدبا في المجموعة، بيغن في إحدى زيارته غير المعدودة لبيغن بقوله "اذا خيرنا بينك وبين أرض إسرائيل فسنختار أرض أسرائيل"[22]. وسمع هذه المقولة كل روؤساء الوزاراء الذين شغلوا المنصب بعد بيغن. أما الأخير فقد هدأ من روعهم وطلب منهم أن يبلغوا اصحابهم في مستوطنات مداخل رفح: بأنني أنا مناحيم بيغن سأعلن للعالم أنه إذا طرح الامر في المفاوضات فسوف أحزم أمتعتي وأعود إلى البيت. أما عضو الكنيست اسحاق رابين الذي زاره وفد من مستوطنة ياميت باحثين عن عزاء عنده فقد أبلغهم باستقامته التي لا تعرف العواطف أن "عليهم أن لا يزينوا تصريحات بيغن، وأنتم استيقظتم متأخرين". وبهدف إظهار التعاطف معهم أبلغهم أن "الامر انتهى وأشعر أنهم باعوا مستوطنات مداخل رفح"[23].

وبالإضافة إلى ذلك تبين للمستوطنين أن شارون قوة مخيبة للأمال، فخلال المحادثة الهاتفية التي أجراها رئيس الحكومة مع شارون خلال مفاوضات كامب ديفيد أبلغ وزير الزراعة الذي ظل في البلاد رئيسه أن السلام أفضل من المستوطنات -وهي المقولة التي حررت بيغن من الوعد الذي قطعه على نفسه أمام المستوطنين. وعند المحادثة الهاتفية مع بيغن كان في منزل شارون غرشون شيفط من غوش ايمونيم حيث أبلغه شارون بمضمون المحادثة وموافقة شارون على إزالة مستوطنات مدخل رفح[24]. ونتيجة لذلك بدأت غوش ايمونيم تحضر للهجوم المضاد. وفي الوقت الذي كان رئيس الحكومة يبذل جهوداً في كامب ديفيد في محاولة منه لايجاد مخرج لحل وسط غير ممكن بين المستوطنات وبين اتفاق السلام، نشرت غوش ايمونيم خطة السلام الخاصة بها التي تضمنت اسكان مليون يهودي في يهودا والسامرة حتى نهاية القرن. كما وضعت خططا للتنفيذ من عام 1978-1979 بهدف إقامة موقع لمدينة يهودية ملاصقة لنابلس بواسطة نواة من مستوطني ألون موريه، واستكمال مخطط إسكان خمسماية عائلة في بيت ايل، والانتقال الى مساكن ثابتة وشق شارع عابر السامرة وأربعة شوارع مركزية أخرى وإقامة خمس مستوطنات جديدة وتهيئة البنية التحتية لعشر مستوطنات اضافية[25]. وعندما زار قادة غوش ايمونيم بيغن عشية زيارته للولايات المتحدة تركهم خائبي الامل وغاضبين، وصرح قادة غوش ايمونيم "هذا هو رجل الحلم من فترة التنظيم السري وأيام الانقلاب السياسي الذي صرح بأنه سيكون هناك الكثير من ألون موريه؟ وبيغن ليس القائد المناسب في هذا الوقت". وتحدث المستوطنون عن "يوم الغفران" الذي يعيشه بيغن (في إشارة إلى هزيمة إسرائيل في الايام الاولى لحرب أكتوبرعام 1973) وقرروا العودة إلى غرفة العمليات من أجل اعداد العدة للسيطرة على الأراضي التي يرغبون بها -لكن هذه المرة ضد الحكومة الخاصة بهم. وحذر حنان بورات بقوله :"اذا لم تواجه الحكومة المهمات المستعجلة هذه مثل خلق أغلبية يهودية في أرض إسرائيل فلن يكون هناك مناص من مقاومتها بشدة"[26].

وبعد يومين من انتهاء محادثات كامب ديفيد وصياغة الاتفاق التاريخي الذي تضمن حكماً ذاتياً لسكان الضفة، وإلغاء الحكم العسكري وتجميد المستوطنات لفترة ثلاثة أشهر، بدأت حركة غوش ايمونيم في 19 أيلول 1978 تنفيذ أكبر عملياتها الاستيطانية والمنظمة جداً لاقامة مستوطنة الون موريه في حوارة الواقعه جنوب نابلس، وهي ذروة نشاط المستوطنين والمدارس الدينية، حيث شارك في العمل على اقامتها المدرسة الدينية التابعة للحاخام كوك والمدرسة الدينية نحاليم والمدارس الدينية العسكرية والمدرسة الدينية أور عتصيون التابعة لدروكمان والمدرسة الدينية في الحائط الغربي، والمدرسة الدينية في كريات أربع. وكانت هذه المدارس وما تمثله الخلفية الداعمة والدفيئيات لانتاج المستوطنات الايديولوجية ممن تجندوا هذه المرة لمساعدتهم. وبأمر يومي من الحاخام تسفي يهودا كوك لكل طلابه الحاليين والسابقين قال فيه :"لكل قواتنا التي خلقت للايمان بالتوراة والبلاد أن يساعدوا في السيطرة الفورية على المواقع الحيوية، كما قام بذلك ملكنا المقدس داوود الذي تحققت في عهده إنتصارات اسرائيل، ومن أجل شعبنا ومن أجل مدن إلهنا مطلوب منا وإلى الابد احتلال كل نقطة في البلاد والاستيطان بها، وهو الامر الذي أمرنا به الرب ووجهنا إليه". وحدد موقع مدرسة الحاخام للتجمع لبدأ عملية الاستيطان، وانضم إلى هذه الحملة مئات المستوطنين والمتعاطفين وتلاميذ المدارس الدينية الذين تم نقلهم بحافلات إلى منطقة الاستيطان الجديدة[27] .              

ومكث المستوطنون على قمة الجبل ثلاثة ايام ووضعوا على صخرة خيمة وكوخا ورفعوا علماً وأحاطوا أنفسهم بجدار. وببرودة الليل والحرارة المرتفعة اظهر رجال ونساء واطفال المستوطنين حبهم لأرض اسرائيل واصرارهم على تخريب كل حل وسط توقع عليه حكومة اسرائيل. وفي ظل غياب بيغن في الولايات المتحدة الذي منح نائبه يغيئال يادين الدعم الكامل لأي قرار يتخذه، قررت الحكومة إزالة المستوطنة من مكانها وعملت بما يتلائم مع القرار الذي اتخذتة أكثر من أية حكومة سابقة حيث صدرت أوامر بإغلاق المنطقة والاعلان عنها منطقة عسكرية مغلقة، وطوقتها بمئات الجنود. ومن اجل كسر روح المتظاهرين واخلاء المستوطنة من دون عنف منع الجيش الاسرائيلي تزويد المتظاهرين بالمياه والاكل. وكما في الحالات السابقة بدأت رحلة الحجيج إلى الناس المهمين في الجبل، حيث توجه اليهم وزراء واعضاء كنيست ورئيس هيئة الاركان وكبار ضباط الجيش، الذين جاءوا الى الجبل للتعاطف مع المستوطنين أو لإقناعهم بالتفرق بهدوء. ورفض المستوطنون محاولة رئيس الاركان رفائيل ايتان التوصل إلى حل وسط ونقل المستوطنه إلى موقع عسكري. كما رفض هذا الحل وزير الدفاع عيزر وايزمن حال عودته من كامب ديفيد، وطالب باخلاء كلي للمستوطنين بناء على قرار الحكومة. وفي إشارة إلى تصريحات رئيس الحكومة عشية فوزه في الانتخابات قال وايزمن :"أنا لم أعد بالكثير من ألون موريه"[28].

وكان الاخلاء العنيف عن الجبل ،امام وسائل الاعلام الإسرائيلية والعالمية عندما قام مئات الجنود بمساعدة الطائرات الحوامة بإخراج المستوطنين المستنزفين الذين يتشبثون ببقايا قوتهم بالصخور وبالكوخ الوحيد الذي أقاموه على الجبل، مقدمة لما سيحدث بعد فترة من الزمن في رمال مداخل رفح وفي مدينة ياميت.

الاخلاء من جبل نابلس كان هزيمة في معركة وليس في حرب بالنسبة للمستوطنين. وتدحرجت قصة ألون موريه من الجبال إلى الردهات السياسية وإلى المحاكم، وتحولت إلى قصة عذاب ونصر في تاريخ المستوطنات. ولم تمر عدة أشهر حتى قام مئة عنصر من الون موريه -في اليوم الاخير من عام 1979- يرافقهم مئات من سكان المستوطنات في الضفة الغربية وهضبة الجولان بالتوجه من كدوميم إلى جبل نابلس للاستيطان فيه مرة أخرى. وتم توقيفهم على حاجز للجيش الاسرائيلي في قرية جيت واعتصموا امام الحاجز ترافقهم وسائل الاعلام حتى تتم الموافقة لهم بالعبور، وقضى المستوطنون مع نسائهم واطفالهم الاسبوع الاول من عام 1979 قرب الحاجز بجانب الطريق الواقعة بين قلقيلية ونابلس في جو ماطر وبرد قارس أمام "عائق كل الصهيونية" كما صرحت بذلك غيئولا كوهين. وفي المقابل صرح وزير الدفاع عيزر وايزمن في كتلة الليكود اذا "قررنا العيش هنا إلى الأبد فعلينا التعلم كيف نعيش متعاونين مع العرب ... وأن الوقت الحالي يتطلب زيادة السكان في المستوطنات وليس توسيعها. وهناك تغييرات تحدث في المنطقة يجب أخذها بالحسبان"[29]. لكن مشاهد العنف التي قام بها أعضاء مستوطنة كدوميم تغيرت الآن بمناظر الضحية المسكين، فصور أمناء أرض إسرائيل المبتلين والمجمدين من البرد الذين يموتون من أجل تحقيق ما يؤمنون به أدت إلى حدوث ردود أفعال ايجابية لصالحهم[30]. ففي السابع من كانون الثاني عام 1979 اتخذت حكومة بيغن قرارا تسمح بموجبه إقامة مستوطنة ألون موريه ومنحها مكانة قانونية في أقرب وقت. وقيل في القرار أن الحكومة ستحدد موعد ومكان إقامة المستوطنة لكنها ستأخذ بعين الاعتبار أمنيات مستوطني الون موريه قدر الامكان. أما رجال الون موريه فقد ردوا بسرعة ببيان رسمي صدر عنهم مرحبين بقرار الحكومة، ومعبرين عن أملهم في أن تكون الخطوة الاولى استعداداً "لاقامة كريات شخيم العبرية". وأضاف البيان الصادر عنهم أنه يجب عدم فهم ترحيبهم بأنه تخلٍ عن انتقادهم لسياسة الحكومة في كل ما يتعلق بالتسويات السلمية المقترحة بخصوص إقامة حكم ذاتي وسياسي للفلسطينيين، وبسياسة الاستيطان البطيئة جداً في يهودا والسامرة[31] .

من جهته لم يضيع شارون وقتا فقد تحرك بسرعة باحثاً عن مكان جديد لتوطين مجموعة ألون موريه. وبرفقة أصدقائه من غوش ايمونيم حلق بطائرة فوق مدينة نابلس والجبال المحيطة بها ووجد المكان الذي يلبي رغبة المجوعة حين استقر الرأي على منطقة قرية روجيب، وتبين أن الأراضي التي اختارها شارون هي أراض ذات ملكية خاصة[32]. ونوقشت مسألة الاستيطان في الموقع في لجنة الوزراء لشؤون الاستيطان أربع مرات ولم تنل الموافقة، لأن موقف نائب رئيس الحكومة يغيئال يادين ووزير الخارجية موشيه ديان ووزير الدفاع عيزر وايزمن طالبوا عدم الاستيطان في قلب المناطق العربية المكتظة، ووجود أراضي فارغة كثيرة في انحاء يهودا والسامرة. وعلاوة على ذلك، أضيف قرار الحكومة الذي كان ساري المفعول والمطالب بعدم مصادرة الأراضي العربية الخاصة لاحتياجات الاستيطان. وكان بيغن قد اتخذ قرارا بعدم مصادرة الاملاك الخاصة متظاهراً بانه يختلف هو وحكومته عن حكومة حزب العمل التي لم تتردد في مصادرة الاراضي الخاصة ،بحاجة وبدون حاجة. وحتى مطلب الاحتياجات الأمنية فقد استهلك وبدأ يسبب عدم ارتياح في أجهزة الأمن. من جهته تمسك وايزمن الذي اشمئز من مظاهرات المستوطنين وتكبرهم، ومن علاقاتهم القاسية اتجاه السكان المحليين واتجاه الحكومة في إسرائيل، ورفض التوقيع على أمر مصادرة الاراضي. لكن ضغط المستوطنين واللوبي السياسي المؤيد لهم الذي يعمل بلا ملل أو كلل من خارج الحكومة وداخلها تغلب على صوت الحكمة.

 وفي بداية حزيران عام 1979 اتخذت الحكومة قراراً بإقامة مستوطنة يهودية في قلب السامرة. ورغم موافقته على قرار الاغلبية أكد وايزمن أن مثل هذه المستوطنة ليست لها أية قيمة أمنية، ولم يتردد في مؤتمر اللجنة المركزية لحيروت بالقول :"لا نستطيع أن نقول طوال الوقت ونثبت للعالم بأنك أنت وبصفتك مستوطنا  ـ مهم ـ للأمن، إن ذلك تزويراً للصهيونية[33] .

وفي السادس من حزيران عام 1979 وبعد اثني عشر عاما من احتلال المنطقة أُعطيت الاشارة مرة أخرى لاعادة احتلالها. وفي غضون ذلك، تلقت غوش ايمونيم معلومات تفيد بنية الحكومة مصادرة 800 دونم من أرضي حوارة بهدف اقامة المستوطنة عليها. لكن شارون اعاق التوقيع على أمر المصادرة إلى صبيحة اليوم التالي، وهو الموعد المقرر لتوجه المستوطنين إلى الارض بهدف عدم تمكين أصحاب أراضي سكان قرية روجيب من التوجه الى محكمة العدل العليا. وانتظمت المجموعة بهدف العمل وفق منهج الجدار والبرج على حد قوله. وفي الساعة الثامنة والنصف من صبيحة السابع من حزيران ومع التوقيع على أمر المصادرة كانت مجموعات غوش ايمونيم في طريقها إلى الجبل. وكما هي العادة رافقهم مئات من المتعاطفين والمؤيدين والمزعجين تصحبهم معدات ثقيلة وطائرات مروحية ومعدات ومساعدة أخرى من الجيش الاسرائيلي. وحتى المساء شق شارع إلى الجبل يرتفع سبعمائة متر عن جنوب شرق نابلس. وانضم إلى المجموعة أوري بار أون مساعد وزير الزراعة والمسئول عن العملية. ومع هبوط الليل كانت هناك مستوطنة صغيرة تضم خيما ومبنى مؤقتا وعلما وجدارا[34] – رغم التأخر ست سنوات تقريبا لكن في النهاية انتصر شعار المستوطنين "استشر ونفذ" .

ومرة أخرى تم التنكيل بنواة المستوطنين رافعي الراية من المكان غير المتوقع، وهي محكمة العدل العليا. وأثار غرس السكين في قلب العرب ـ كما كان يصف المستوطنون انفسهم الاستيطان في منطقة نابلس[35] ضجة كبيرة في البلاد والعالم، فالمعارضة والفلسطينيون والمنظمات الدولية والإدارة الامريكية احتجوا على قرار إقامة المستوطنة وعلى مكانها وتوقيتها ،عشية محادثات الحكم الذاتي مع مصر. وعلى غير عادتهم طالب قادة يهود أمريكا ولجنة روؤساء المنظمات اليهودية في اجتماعهم مع بيغن في القدس بإزالة المستوطنة. أما "حركة السلام الآن" والتي تشكلت قبل فترة قصيرة فقد هددت بالتظاهر في المكان واجراء مظاهرات جماهيرية ضد المستوطنة في كل البلاد[36]. وبعد اسبوع من الاستيطان في ألون موريه قدم أصحاب الاراضي في المنطقة ممثلين بالمحامي الياس خوري التماسا إلى محكمة العدل العليا التي لم يسبق لها أن قبلت التماسا من عرب. ورفض القاضي احتياط طلب محامي الملتمسين إصدار أمر مؤقت بتجميد البناء في المكان. لكن تسلسل الاحداث كان مختلفا لأن القيمة الأمنية للمستوطنة المثيرة للخلاف حتى داخل الحكومة نفسها وضعف الوثيقة التي قدمها رئيس هيئة الاركان الجنرال رفائيل ايتان بخصوص أهمية المكان من ناحية أمنية والرأي المهني الذي قدمة الجنرال احتياط متاي بيلد ورئيس الاركان السابق حاييم بارليف بخصوص عدم أهمية المستوطنة من ناحية أمنية وحتى الصعوبات التي تسببها في توزيع قوات الجيش من اجل الدفاع عنها من "محاولات المس بها" وشهادة اثنين من سكان ألون موريه بأن المستوطنة الجديدة لم تقم لأسباب أمنية بل لاسباب أيديولوجية وأن سكنهم هناك لن يكون مؤقتا بل هو جزء من حدث أبدي، حسمت مصير المستوطنة. ففي البداية أصدر القضاة أمرا مؤقتا بتجميد "كلي لألون موريه"، وبعد خمسة أشهر عاصفة من النقاش القضائي وكتابة القرار وتحريره قرر القضاة الخمسة في محكمة العدل العليا برئاسة القاضي موشيه لاندو ضرورة اخلاء المستوطنة من مكانها وإعادة الاراضي إلى أصحابها، ومنح المستوطنون ثلاثين يوما لاخلاء الموقع[37] .

وفاجأ قرار محكمة العدل العليا رئيس الوزراء الذي أعلن في بداية الاجراءات القانونية أن "في القدس قضاة". ووصف المقال الرئيسي لصحيفة يديعوت أحرنوت الوضع بالمأساة الوطنية[38] وتجند اليمين الاسرائيلي كله في جولة ضغوط على الادعاء العام وعلى محكمة العدل العليا بهدف رفع يدها وصلاحياتها عن المناطق المحتلة. وكان القرار التاريخي لمئير شمغار كمدع عسكري عام قبل عقد من الزمان بوضع المناطق تحت صلاحية محكمة العدل العليا، قد أثبت نفسه في نهاية الامر كحاجز حتى أمام قوة المحتل المستوطن. وعلى ضوء إعلان غوش ايمونيم انها لن تخلي المستوطنة مهما تكن أبعاد القرار، أعلن رئيس الحكومة أن قرار المحكمة سيحترم وانه لن يكون هناك تشريع يلغي صلاحيات وقرارات محكمة العدل العليا[39]. وامام نشاطات مؤيدي المستوطنين في الحكومة التي اعدت وقف المستشار القضائي للحكومة اسحاق زامير ومدعي عام الدولة غبرائيل باخ بقوة لم يسبق لها مثيل في الدفاع عن القرار. والتقى رئيس الحكومة عددا من المرات غير معروف في محاولة منه لاقناع المستوطنين بتفكيك المستوطنة. وبعد ستة أشهر من الاستيطان في تلك المنطقة وبحكم الصلاحيات وبمساعدة من الجيش الاسرائيلي تم تفكيك المستوطنة وطرد المستوطنين من المكان. وللحظة تستطيع سلطة القانون أن تسجل لنفسها نصراً على منظمة تعمل ضدها بمساعدة من شخصيات رفيعة وكثيرة تجندت لصالهحم منذ عام 1967.


 

[1] .  هار نوي، ص 87-91 .

[2] . أرييه نائور، بيغن في السلطة، شهادة شخصية، تل أبيب، 1993، ص 35. مراسلنا السياسي في القدس، أوساط في وزارة الخارجية خائفة على ضوء تصريحات بيغن حول مستوطنات اضافية في يهودا والسامرة، هتسوفيه، 22/5/1977 .   

[3] . أرييه نائور، بيغن في السلطة، ص 34-35. مراسل هتسوفيه، الحكومة الجديدة التي ستشكل ستدعو الشبيبة للاستيطان في يهودا والسامرة، هتسوفيه،20/5/1977 .   

[4] . أهارون دولب، غوش ايمونيم مستعدة لتكثيف الاستيطان، معاريف، 1/7/1977، أهارون دولب، مستعد لاستلام هذا الملف منكم – أبلغ بيغن الحضور عندما قدمت له خطة الاستيطان، معاريف، 27/7/1977  

[5] . أهارون دولب، غوش ايمونيم مستعدة لتكثيف الاستيطان، معاريف، 1/7/1977 .

[6] . أرييه نائور، بيغن في السلطة، ص 123-125. أرييه نائور، محاضرة في جامعة تل أبيب، 2/6/2003 .

[7] . هار نوي، المستوطنين، ص 104-105. راجع أيضا سيغل، الأخوة الاعزاء، ص 37 .

[8] . أهارون دولب، لتهتم الحكومة بتزويد النساء الحوامل باللباس العسكري وأن يهتم رئيس هيئة الاركان بتوزيع فوط للمواليد الجدد، معاريف، 30/9/1977. سجل من قبل أوري إيليتسور، أبلغنا رئيس الحكومة، توجهوا نحو الأرض كمحاربي الحروب الشعبية، ويا أبنائي انتصروا علي، نكوداه، رقم 51، 1982. ص 6-7 . راجع أيضا سيغل، الأخوة الاعزاء، ص 37-38 .

[9] . عوزي بنزيمان، شارون لا يتوقف، تل أبيب 1985. ص 203 .

[10] . أرييه نائور، محاضرة في جامعة تل أبيب، 2/6/2003 .

[11] . نفس المصدر، بنزيمان، شارون، ص 203 . راجع أيضا شلومو غازيت، الطعم في المصيدة، ص 238. Robert Friedman, Zealots for Zion: Inside Israel’s West Bank Settlement Movement, New York 1992 p. xxvi. Ariel Sharon with David Chanoff, Warrior: The Autobiography of Ariel Sharon, new York 1989, pp.356-360   

[12] .   أقوال الكنيست ، مجلد 81، جلسة 9/11/1977 . ص 360 . 

[13] .   Sharon with Chanoff, Warrior pp. 360-361

[14] .  أقوال الكنيست ، مجلد 81، جلسة 9/11/1977 . ص 360 . 

[15] . بنزيمان، شارون، ص 203. تقرير بيتسيلم، يحزقييل لايين (بحث وتأليف)، سرقة الأراضي، سياسة الاستيطان في الضفة الغربية، القدس، ص 12. Geoffrey Aronson, Creating Facts: Israel, Palestinians and the West Bank, Washington 1987,pp. 71-74   

[16] . أوتا ولش، الصندوق التأسيسي يزرع- الشعب العبري يقطف، بيان من الصندوق التأسيسي، القدسن قدمته بتيا دونر في ، العيش مع الاحلام، تل أبيب 1989، ص 21 .

[17] . دان سوان وميخائيل شيفر (محرران)، قائمة المستوطنات في يهودا والسامرة، السكان ورموزهم، 2000 . المعطيات المركزية السنوية، يهودا والسامرة، أرئييل 2003، ص 5-7 . 

[18] . حجاي سيغل، الاستيطان الهادئ، بيت إيل 1992 .

[19] . سوان وشيفر، المعطيات السنوية ليهودا والسامرة. نفس المصدر 

[20] . نفس المصدر .

[21]. غازيت، الطعم في المصيدة، ص 238. راجع أيضا Sharon with Chanoff, Warrior,pp.365-366

[22] . اهارون دولب، ليقلق الجيش من أجل تزويد النسوة الحوامل باللباس العسكري وأن يهتم رئيس هيئة الاركان بتزويد الحفاظات العسكرية للأطفال، معاريف،30/9/1977 .

[23] . عليزا فيسمان، الاخلاء، قصة اجتثاث مستوطنات منطقة ياميت، بيت إيل، 1990، 30/9/1977 .

[24] . عوزي بنزيمان، رئيس الحكومة في حصار، القدس، 1981، ص 198-199. راجع أيضا شيفط، غوش ايمونيم، ص 434 .

[25]. يسرائيل هرئييل، خطة السلام الخاصة بغوش ايمونيم، يديعوت أحرنوت، 8/9/1978 .

[26] . نفس المصدر

[27] . خدمات معاريف، أمر يومي من قبل الحاخام كوك، كل قواتنا تسرع لاحتلال المواقع الحيوية، معاريف، 21/9/1978 .

[28] . يوسف فيلتر، عيزر وايزمن هبط في معسكر المستوطنين قرب نابلس وقال، مستعدين لمضاعفة عدد السكان في المستوطنات القائمة، معاريف، 21/9/1978. يوسف فيلتر، أنا لم أعد بكثير ألون موريه، قال وايزمن وأمر باخلاء المستوطنين بالقوة، معاريف، 22/9/1978. راجع أيضا، غيل كيساري، ستون ساعة من المواجهة على قمة جبل نابلس، معاريف، 22/9/1978 .   

[29] . دان مرغليت، بيغن يطالب المستوطنين، المتظاهرين بالتفرق وكتلة الليكود تمتنع تمنع بناء على طلبه من اتخاذ قرار، معاريف، 5/1/1979

[30] . شيفط، غوش ايمونيم، ص 347-348 .

[31] . وثيقة غير رسمية نقلت على ما يبدو من قبل شارون إلى نواة ألون موريه، نقل عن شيفط.

[32] . شيفط، غوش ايمونيم، ص 349-350 .

[33] . أمنون برزيلاي، وايزمن يخشى من مشاكل مع الولايات المتحدةومصر في مسألة الحكم الذاتي، هأرتس، 6/6/1979 .

[34] . مراسل معاريف، اسلوب البرج والسياج، لكن مع الطائرة المروحية لأرئييل شارون، قامت مستوطنة ألون موريه، معاريف، 8/6/1979 .  

[35] . موشيه سيمون، جلسة السكرتاريا الموسعة لغوش ايمونيم، 15/5/1978. موجودة ملحق في كتاب روبنشتاين، من لها لي، من دون رقم .

[36] . مراسل معاريف، اسلوب البرج والسياج، لكن مع الطائرة المروحية لأرئييل شارون، قامت مستوطنة ألون موريه، معاريف، 8/6/1979 .  

[37] . محكمة العدل العليا، 79/390، عزت محمد مصطفى دويكات ضد حكومة إسرائيل،ص 1 .

[38] . هيرتسل روزنبلوم، مقال المحرر، يديعوت أحرنوت، 23/10/1979 .

[39]. راجع على سبيل المثال، موشيه نغبي، كوابل العدل، محكمة العدل العليا مقابل الحكم الإسرائيلي في المناطق، القدس، 1981 ص 70 .